ينعى أدباء ومثقفو العراق رحيل الشاعر العراقي الكبير فوزي كريم الذي يعدّ واحدا من اكثر شعراء الجيل الستيني حضورا ومشاكسة وانتاجا منوّعا.
وفوزي بحسب ما ذكره في نعيه الشاعر والباحث العراقي خزعل الماجدي : (لون فريد من طيف الثقافة العراقية، لا نظير له ولا شبيه شاعر وسع المدى، ومفكر أدبي ونقدي ورسام وذوّاق وعراف موسيقى، يحار الإنسان كيف يصفه ويصف خصاله ولطفه وكرمه ونبالته”)
.
سعيت الى التعرف على فوزي منتصف السبعينيات وانا اتلمّس بدايات الدخول الى عالم النشر في بغداد كلما قدمت من البصرة، وكان أيّامها يعمل في مجلة “الف باء” ومقرها في باب المعظم، بالقرب من جسر الصرافية، وسط بناية “دار الحرية للطباعة”.
وكان –رحمه الله- رغم مظهره الصعب الموحي بأنه شخصية معقّدة،( بالمناسبة كان هناك مقهى في بداية شارع السعدون بالقرب من المكتبات اسمه مقهى “المعقدين” وكان فوزي أحد مرتاديه)
لكنه لمن يتقرّب منه سيجده واحدا من أطيب الأدباء قلبا وروحا، حيث لم يبخل عليّ بملاحظاته على ما كان يطلع عليه من قصائدي، لتصبح ملاحظاته -فيما بعد- من ثوابت مشغلي الشعري وما زالت الى الان، بل انني سعيت الى ان أقلّده في مظهره الخارجي من شدّة اعجابي به، فأصبحت حقيبته الجلدية المحمولة على الكتف، هي واحدة من علاماتي التي عرفت بها طويلا.
.
منتصف الثمانينات، وكنت برفقة الصديق الشاعر “لؤي حقي” بزيارة الى لندن للتهيئة لـ”مهرجان بغداد المسرحي الأول” وحين عرف بوجودي هناك مرّ عليّ ذات أمسية واصطحبني معه الى بيته الذي كان في ضواحي لندن الهادئة، ومع القهوة والموسيقى والأحاديث المشوّقة التي لا يملّ من سماعها أحد لغناها ومعرفيتها العالية، اخبرني بولادة نجله الأول، وضحكنا كثيرا حين قال انه اسماه “سامر” فقلت له يبدو انك متأثر بـ”عبد الامير معله” لأن ابنه ايضا اسمه سامر، ووسط جو المرح قال : اذن سأغير أسمه حالا..
.
من المفارقات التي كنّا نتداولها بسخرية، هي ما كان يقوله عنه الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، حين يسأل عن فوزي كريم ، فيردّ – ابو علي- بتجاهل ” أها . تقصدون هذا الولد اللي يغني” وكان الغناء احد ثوابت فوزي في ليالي اتحاد الأدباء بعد ان يغادر الرواد الطارئون حدائقه، ولا يبقى فيه سوى سمّاره.
وكنا نعرف اسباب محاولة تجاهل البياتي لفوزي، والتي أهمها أنه يشعر بالتهديد من ابداعه وكشوفاته الشعرية اللافتة.
على الرغم من ان فوزي كان حين يطيب له الغناء لا يغني سوى قصيدة البياتي التي ما زلت احفظ منها :
غرباء يا وطني نموت
وقطارنا أبدا يفوت
ونحن من منفى الى منفى
ومن باب لباب ..
نذوي كما تذوي الزنابق في التراب
..
أخيرا .. مات غريبا – كما كان يغني، وقطع قطار منفاه أراضي الحياة الشاسعة، ليذوي كما تذوي الزنابق في التراب.
فرحم الله شاعرنا الكبير فوزي كريم..
وستحتفظ له الذاكرة العراقية بآلاف المواقف والتعاليم الشعرية التي بقي أمينا لها حتى آخر انفاسه .
.
يكتب فوزي:
(الزمنَ في هذا المنفى لا يشبه زمنَ الآخرين، بل لا يشبه زمنَه هو يوم كان على أرضه ذات يوم. بل لعله لا ينتسب إلى الزمن أصلاً. إنه زمنٌ يفلت من عقارب الساعة، يفلت من دورة الشمس في النهار والليل، ويفلت من دبيب الفصول. الأمر الذي يجعله زمناً لا امتداد فيه، وقد خُصّ به وحده.
على امتداد ثلث قرن لم يفارقني الروعُ، وأنا أشعر بأن الزمنَ لا يأخذ بيدي، لكي أنمو معه شأن الآخرين حولي. إنني لا أتحرك معه إلى الأمام، بل أُراوح في المكان الذي لا صلابة فيه. حين أحدق بأولادي وقد أصبحوا رجالاً سرعان ما أجدني أتجنب ذلك، وكأني أحدّق في “فكرةٍ”، عصيةٍ على إدراكي)
.
سيبقى غيابك عصيّا على الإدراك برغم قانون الحياة الذي قدّرته الآلهة على البشر واستأثرت هي بالخلود، كما تقول ملحمة كلكامش.