9 أبريل، 2024 5:53 ص
Search
Close this search box.

يقول عني ظالمة

Facebook
Twitter
LinkedIn

ركن سيارته الفاخرة جانبا.. كانت السماء صافية.. والجو ربيعا.. ومقهى الأطلسي.. عن آخرها مكتظة.. بدون سابق إنذار.. توجه نحوي قاصدا.. بنظرات محدقة مقلقة.. وملامح حادة كدت لا أعرفها.. جاءني مسرعا مهرولا.. بصوت حازم خافت مكتئب.. في قلبه مثقال ذرة لوم.. عليه أن يلقيها..
قبل أن نتبادل أطراف الحديث.. وأشرع في فك لغز الضيف الكريم.. تبادلنا التحيات وآدابها.. محافظين على التباعد الذي فرض قسرا علينا.. قدر حرصنا على اللياقة وقواعد الإتكيت التي كانت تلازمنا.. بعدها مباشرة.. شرع في إعلان الانتفاضة.. “مغبون قلبه.. مهضوم حقه”.. شعار رفعه ضد القوى الظالمة.. أشهر سيفه في وجهي.. في شانه، وقفت حائرة.. كيف لي أن أقاوم من أتاني.. من شدة الظلم شاكيا.. وكيف لي أن أبارز من كان فارسا في المسايفة ؟..
رفع حاجبيه نحو السماء.. كما فعل سايلا صديقي قبله.. قبل أن يغادر البلاد.. مستعينا بذكائه الأخاذ.. حتى كدت أبادر في الاستغفار.. رغم براءة أشعاري.. كل شيء فيه كان يصر على إدانتي.. فمن شدة الغيظ والوجع.. كادت أعصابه تنفلت.. وتنطلق من المحيا شرارته.. كدت من لهيب اندفاعه أموت قبل الأجل..
فقبل أن يهم بالاحتجاج.. ويشرع في رد اللكمات.. استأذن مني بالجلوس.. الساعة تشير إلى الخامسة وعشرين دقيقة.. دقت طبول الحرب.. توقفت أمواج المحيط.. توقفت معه دقات قلبي.. اختلطت المشاعر.. امتزجت بالفرح والدموع.. من العسير علي أن أتصور نفسي ظالمة كما يدعي.. فرغم عتابه الشديد.. أسعدني حلول الربيع.. كما أسعدني مروره اللطيف.. فبين الأولى والثانية.. ثمة حقيقة ثالثة ثابتة.. كادت علي أن تغيب.. فجرها ذو المنصب الرفيع في ثانية.. من ظننته لبنات أفكاري حاميا.. ليته يسمع ندائي بقلبه.. ويقرأ أفكاري بعقله.. لحمل لي الأزهار بدل العتاب.. وأنهى الطوارئ والحصار بدون قطرة دماء.. لرفعت له شارة النصر.. وبايعته طوال العمر..
فبعد أن أذنت له بالجلوس.. قال لي يا “نجاة” كم كنت “ظالمة”.. “حكمك علي كان قاسيا”.. “أدعوك للحلبة إن كنت على ذلك قادرة”.. جملة قصيرة.. نزلت علي كالصاعقة.. بقليل من الحيلة والذكاء.. قمت بتهدئة الوضع.. فقبل أن أعطي تفسيرا واضحا للأمر.. حاول بدوره قطع الحبل.. مستعينا بخططه العسكرية النادرة.. تارة في موقف هجومي.. تارة في موقف دفاعي.. محاولا من جهته إدانتي وسجي في قفص الاتهام.. محاولة من جهتي التخفيف من حدة الآلام.. وتذكيره بمبادئ السلطة السيادية الديمقراطية.. قبل أخذ أي قرار..
لكوني مقاتلة في الأصل.. لم اعر اهتماما كبيرا للأمر.. بل لم أهتم بإطلاق النار.. ولا بالحكم القاسي.. الذي صدره “الجنرال” في حقي.. بقدر اهتمامي بالإنسان الذي كان يجلس أمامي.. إنها لحظات قصيرة.. مرت مرور البرق.. بيد أن مفعول دلالاتها كان قويا بالفعل.. وجدت نفسي أرحب به في مملكتي.. متجاهلة كل الادعاءات.. إنها قمة الإحساس بالضياع.. إنه أصعب امتحان لكلا الطرفين.. هي أشياء بسيطة قد يضنها المرء عابرة.. بل هي أشياء جميلة رأيتها تنهار متتالية.. فقبل أن يسترسل في تعذيبي.. حاولت جاهدة التشبث بابتسامتي.. بل بحقي في كتابة أشعاري.. وبعث رسائلي.. قبل أن تنطفئ شمعتي..
بينما كنت أحاول فهم جرحه العميق.. وسبب اتهامه المباشر لي.. وقعت في طريقي على.. إنسان مرهف الحس.. رجل حزين.. يحمل بين طياته جرحا عميقا.. ازدواجية الشر والخير.. وقعت على صورة لي طبق الأصل.. صادفت شاعرا مولعا.. بنسج الحس والحرف.. صادفت مغامرا عنيدا لا ينهار.. وثيقة نادرة تؤرخ لأنبل إحساس.. دون أن يدري.. صليت من أجله صلاتي.. لعبت دور الشقيق والقريب.. من أجله غنيت “ليلي يا ليالي”.. من أجله لعبت دور الدفاع..
وجدت نفسي أصغي له بكل إمعان.. نسيت أنني “أنا” من كان يقصد بالعتاب.. حاولت فهم ما كان يجري أمامي.. إلا أن الفهم لم يكن حليفي.. استمعت لقضيته المثيرة من البداية إلى النهاية.. استمتعت بشعره.. شعرت بدقات قلبه.. بآلامه وشجونه.. شعرت برياح قوية تعصف بكبريائي.. تأخذني لوجع السنين.. لذنب اقترفه في حقه غيري.. في لحظة أشعرني أنني سبب كل الآفات.. وأن “ألدوف” لم يفارق الحياة.. جعلني أسائل نفسي هل حقا أنا اسمي “نجاة”.. وضعني في قفص الاتهام.. أشعرني كيف يكون شعري ظالما.. كيف يكون نثري كافرا.. كيف يكون الربيع رماديا..
حاول أن يكون هادئا.. فلم يستطع إليه سبيلا.. فقبل أن يشرع في حرق سجائره.. بدأت يداه ترتعش من شدة الغضب.. دعوته.. فرغم عشقه الشديد للقهوة.. رفض قبول دعوتي.. أخذ يدقق في ملامح وجهي.. كمن لم يرني منذ مدة.. بل كان يودعني لآخر مرة.. تارة كان يشفق علي.. وفي أحيان كثيرة كان يرميني في بحر الملامة.. مستعينا بأصدقائه.. لمواجهة أقدم محاربة.. بل أقدم مطالبة للسلامة..

فبعد أن وقعنا فريسة “الأفعال والأقوال”.. ونال منا “القيل والقال”.. راح يقدم رأسي قربانا للاغتراب.. مطالبا للآثمة بأقصى عقاب.. يلومني كما لم يلمني يوما بشر.. فبفضل غريزة البقاء.. ونعمة الكبرياء.. وجدت نفسي ألعب مجبرة دور شهرزاد.. أحكي قصصا غريبة.. بلسما على الجراح.. فرغم الأذى الذي ألحقه بي “الجنرال”.. وجدت نفسي أسامحه.. رغم قرار الهجران.. أنا أقول فيه نثرا وشعرا.. يقول في ما قاله المالك في الخمر.. “فمن أشد أنواع الظلم.. أن أجد نفسي ضمن القوى الظالمة”.. “ومن أشد أنواع الظلم.. أن أجد نفسي خارج دائرة الضوء”..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب