14 نوفمبر، 2024 7:46 م
Search
Close this search box.

يصارع الموت في صالة العمليات

يصارع الموت في صالة العمليات

جالسٌ في صالة ألأنتظار في إحدى المستشفيات أنتظر بقلقٍ شديد خروج ولدي من إجراء عملية له في ساقه ويده نتيجة حادث مروع. كان رأسي بين يداي وعيناي مغمضتان كأنني أريد الهروب من هذا الواقع المؤلم. لم أشعر بوجود اي إنسان قربي رغم حركة الناس الكثيرة , لم تصل الى مسامعي إلا دمدمات غامضة كأنها اصوات حشرات متنوعة تتقافز هنا وهناك. لم أعد أهتم لوجود أي أحد. كانت الفئات البشرية تتحرك أمامي ولاأرى إلا سراباً غير متضح المعالم. فجأة شعرت بيدٍ ناعمة تحط على كتفي بهدوء. نظرت الى جانبي بعدم إكتراث. كانت هناك فتاة جميلة ترتدي –صدرية- بيضاء كتلك التي يرتديها ألأطباء أثناء تواجدهم في العمل. دققت النظر في الوجه الجميل. كانت الرؤيا غير واضحة بالنسبة لي فقد كان ذهني مشتتاً وعيناي قد أعياها ألأنتظار.
—-” هلوعمو كيف الحال؟ لماذا أنت جالسٌ هنا؟ هل تنتظر شيئاً ما؟” .
لم أجبها عن أسئلتها الكثيرة. سافرت عيناي الى محيطات عينيها أحاول إستكشاف هذا المخلوق الذي إقتحم فجأة معاناتي وإنتظاري الطويل. هي لاتعرف لماذا أنا هنا. هي لاتعرف أي شيء عن حالة ألأنكسار التي أعيشها في ذلك الزمن. هي تستفسر عن وجوي هنا. كنتُ وحيداً بلا قريب بلا صديق, تائه ٌ في غربةٍ أبدية. من هي هذه المخلوقةِ الفاتنة؟ هل سبق لها أن عرفتني يوما ما؟
—-” من أنتِ؟ هل سبق لنا أن تقابلنا يوما ما؟ “
شعرتُ أن يدها ترتخي . أحسستُ أن جزءأً من جسدها يرتجف. وضعت يدها على ركبتها وراحت تنظر الى الجهةِ ألأخرى وكأنها تشعر بالهزيمةِ من أولِ لقاء. أحسستُ أنها نادمة لجلوسها هنا بالقرب مني. تنهدتْ بصوتٍ مسموع كأنها تريد إزالة كل تراكمات الزمن المنهار يوماً ما. على حين غرة, لملمت شجاعتها من جديد كأنها تروم الدفاع عن نفسها في قضيةٍ خاسرة منذ زمنٍ بعيد.
— ” أنا – كبرياء- هل صحيح أنك لاتعرفني أم أنك تتظاهر بذلك كي تتجنب أي حوارٍ معي؟ تخرجت هذا العام من الكلية التقنية الطبية وجئت للعمل هنا في قسم التخدير. قبل قليل كنتُ في صالة العمليات خدرتُ جسد أحد الشباب. كانت إصابته شديدة . لم أرَ وجهه فقد كان بعيداً عن مكان التخدير. مسكين ساقه ويده مهشمتان. لاأعرف كيف شعور والده ووالدته ألان.”
دققتُ النظر في عينيها من جديد. تحركت في جسدي أشياء كثيرة . راح قلبي يخفق بشدة كأنه في صراعٍ مع الموت والحياة. فجأة صرخت بصوتٍ مرتعش :
—- ” كبرياء!! لم أعرفك أبداً. شكلكِ قد تغير تماما. أين أنتِ طيلة سنتان. كنت أعتقد أنك سافرتِ الى بلدٍ بعيد. إنقطعت عني كل أخبارك لدرجة أنني لم أعد أفكر بك أبداً.”
مسحت دمعة وجدت لها طريقاً مغتصباً على خدها الجميل. نظرت الي بحزنٍ دفين . كانت تنظر في أعماق عيناي بتلهف كأنها فارقتني مئات السنين. إستجمعت قواها من جديد وتهيأت لعتابٍ طويل.
—- ” عمو !! لماذا تغدر بي هكذا؟ لم أفعل لك أي شيء. كنتُ أتوقع أي شيء من أي إنسان إلا أنت. كنت مثلي ألأعلى. هل تعلم كم تألمت بسببك . سنتان من الحزن وألألم بسببك أنت بالذات. لم أهتم – أقسم لك بذلك- لم أهتم حينما تركني ولدك وراح الى فتاةٍ أخرى. على العكس كنت سعيدة لأنه تركني. لم نكن نصلح لبعض. كانت ميولنا مختلفة وتفكيرنا لايتفق مع بعض في أدق التفاصيل. ولدك يبحثُ عن شيءٍ آخر لاأستطيع أن أقدمه له أبداً. وافقت على كل شروطة ليس لأنني أحبه ولكن لسببٍ آخر أنت لاتعرفه ولايعرفه أي إنسانٍ آخر. ربما تقول مع نفسكِ أنني غير متوازنة أو ربما أشياء كثيرة أخرى. لايهمني ماتقول ولن يهمني كلام أي إنسانٍ آخر مهما قال . “
سكتت قليلاً وراحت تمسح دموعها . كان جسدي يرتعش هذه المرة لسببٍ آخر. نسيتُ ولدي الملقى على سرير العمليات يصارع الموت. حدث موضوع آخر غطى على كل المواضيع المنبثقة الى ساحة الصراع اليومي. لملمت جسدها المرتعش وعادت تتحدث بصوتٍ حزين “
—” لماذا لم تتصل بي أنت بالذات وتخبرني أن ولدك ذهب للأقتران بفتاةٍ أخرى؟ هل تعلم مذا حدث لي حينما سمعت الخبر عن طريق الصدفة؟ لا أريد الخوض في هذا الموضوع ولكن حدثت لي اشياء مرعبة. ليس لأنني فقدتُ ولدك الى ألأبد ولكن لأنني شعرتُ أنني لاأمثل لك اي شيء. شعور مرعب دمرني كل تلك الفترة. “
كانت دهشتي أكبر من كل شيء, لم أفهم ماكانت ترمي اليه. قبل أن أفتح فمي للحديث إندفعتْ قائلة:
—-” لاتقل أي شيء. أعرف ماستقول. ستبرر لي أشياء كثيرة وستقول لم يكن ألأمر بيدي واشياء أخرى أعرفها كلها. أنا لم أهتم لفراق ولدك ولكن ألأمر المرعب بالنسبة لي هو أنك تجاهلتني كأنني نكرة لا وجود لها في هذا العالم. قررت أن أنساك الى ألأبد والغيت رقم هاتفك من قائمة ألأشخاص المقربين. ألغيثُ كل حساباتي في النت كي لاأصل اليك ولاتصل لي أبداً. قررتُ أن أعيش حياة أخرى تختلف تماماً عن أحاسيس الفتيات اللواتي يحلمن بحبٍ وعشقٍ بريء نظيف . اليوم وأنا أشاهد أبنك فاقداً لوعيهِ في صالة العمليات حاولت الهروب من الصالة ولكن إصرار مسؤول العمليات على بقائي جعلني أقوم بعملي ويداي ترتعشان من الخوف أن لاأقتله بالخطأ. كذبتُ عليك حينما قلتُ لك أنني لم أرَ وجهه. كان يشبهك . بقيتُ لحظات أتامل وجهه. شاهدتك أنت لم أعد أره. عرفت أنك ألآن تتألم وتبكي في رواق المستشفى. ربما ترتجف مثلي وأنا أمسك أدوات التخدير بيدي.” كانت الدموع تنهار من عينيها كسيل عارم. عادت للحديث من جديد وهي تمسح أنفها بقطعة منديل ناعم نعومة روحها الشفافة.
—” هل تصدق إذا قلتُ لك شيئاً غريباً؟ هل تصدق ماساقولة لك ألان ؟ لأنني لن أتحدث لك بعد هذا اللقاء مهما كانت الظروف. حينما جاء ولدك يوما ما الى الكلية وصارحني من أنه يتمنى أن يرتبط بي . فرحتُ كثيرأ . ليس لأنني عشقته أو أنه شاب جميل مثلك أو لسببٍ آخر. فكرتُ مع نفسي أن ولدك سيكون السبب للعيش بالقربِ منك . لاتذهب بعيدا وتتهمني بالشذوذ أو شيءٌ آخر. أنا من عائلة تعرف كل الحقوق والواجبات تجاة التقاليد السماوية والعشائرية. إستقتلت للأرتباط بولدك لسببِ آخر, كي أكون معك في بيتٍ واحد أداريك في شيخوختك وأخدمك كل سنوات العمر بتفاني وأخلاص. أكذب عليك إن قلتُ لك أنني أحببتُ ولدك. أردت ألارتباط به كي أكون قربك. عشقتك وأنا في الرابع ألأبتدائي. عشقا غريبا. لم أفهمه. هل لأنني أحلم بوالدٍ مثلك أم أنه تعجبٌ من نوع آخر. شعور ظل ينمو كل سنوات الدراسة من ألأبتدائية حتى لحظة تخرجي. كلما شاهدتُ شاباً في الكلية أقارنه بك يسقط من نظري في لحظةِ صدقٍ واحدة. حينما سمعت بالصدفة أنك ذهبت مع ولدك لخطبةِ فتاة أخرى بكيت وبكيت حتى جفت دموعي. لم أبكي على ولدك. بكيتُ عليك لأنك سقطت من نظري وأعتبرتُ نفسي غبية كل سنوات العمر التي قضيتها أفكر فيك. عرفتُ أن حلمي لم يكن إلا سرابا غامضا وهميا . اليوم وأنا اضع المخدر في جسد ولدك شاهدتك في خيالاتي الكثيرة تستنجد بي ..تطلب مني أن لاأتخلى عنك مهما حدث. عرفتُ أنك جالسٌ هنا. كان شيئاً غريباً يجرني اليك. لاتخف سيعيش ولدك أن شاء الله . أنا مصابة أكثر منه . لو قارنتَ إصابتي بأصابته ستعرف مدى الفرق الكبير بين ألأصابتين. سأذهب ألان ولكن ينبغي أن تعرف شيئاً حقيقياً وهو أن أنني عشقتك أنت وليس ولدك وسابقى أعيش على هذا الوهم حتى الموت. سأتزوج قريبا ولكن ليس عشقا وإنما زواجا تقليدياً. خذ هذا كارت عملي قد تحتاجني يوما وفيه رقم هاتفي تستطيع أن تتصل بي في أي وقت. سأبقى أتخيلك في أحلامي ولن ترحل عن ذاكرتي مادام هناك نفس وقلب ينبض بالحياة”
وضعت الكارت قربي ورحلت وتركتني في ذهول نسيتُ فيه أن ولدي يصارع الموت في صالة العمليات.

أحدث المقالات