إعتقالي في غروب يوم من شهر أيار العام 1980، لا صباح له.. موضوع حلو.. يؤرقني، بل هو محور يفاعتي، التي إستنفدت نهاراتها وراء القضبان، بينما أقراني يستنفدونها بجمال حب مواعدة الصبايا، اللواتي يسمعونهن قصيدة “ريتا” لمحمود درويش، فيذبن وجدا في هواهم”بين ريتا وعيوني بندقية.. والذي يعرف ريتا.. ينحني.. ويصلي.. لإله في العيون العسلية.. وأنا تهت بريتا سنتين.. وهي نامت فوق زندي سنتين” فيكتشفون أن الحبيبة غفت على زندهم… بينما أنا أغفو من سهر النوم، لأسهر نائما، يتساوى عندي الليل الذي لم أعد أعرفه، مع النهار الذي غب في ذاكرتي مثل سمكة نتنة! ثمة دعابات روح اريحية، تكاد تقطع أحجار جدران السجن، المبطنة بكونكريت، في لبه فولاذ! ونحن وسطه، نتماهى مع الجمر صيفا والثلج شتاءً.. نستشعر لسعهما! تلك هي ملامح غيابات السجن، الذي إلتهم فتوة شبابي، وأعادني للحياة، بمعجزة تفوق الخيال.. الا ان دعابات كارثتي أخف وطأة من وهن السجان، الذي كان أشدنا قلقاً.
أينا أحق بتداعيات القلق، نحن السجناء، خشية ان يتركنا ويفر، ام هو الذي يخشى ان يفرغ المعتقل من حوله، ويصفو وحيدا.. لا أنيس يعذبه، بأمر من الطاغية المقبور صدام حسين.
دخلت المعتقل، مع والدتي واشقائي وشقيقاتي، قالوا خمس دقايق.. إستفسار، تحولت الى خمس سنوات، كأنها خمس رحى كونية، تطحننا، مثل الحنطة، وتلقي بالسبوس الى الهباء! إستنفدت ربع عمري تماما.
السجن حينها مشرع الباب، يفتح درفتي نافذته، وكوة في السقف، لإلتقاط الشيعة والكرد، وأنا “فيلي.. مدومن على الراسين” ولديهم تهمة جاهزة لكل عائلة فيلية: أما تبعية ايرانية او منتمية الى حزب الدعوة.
لحظة قدومهم المشؤوم، كنت اقرا كتابا مدرسيا، أتهيأ للامتحانات النهائية، التي إقتربت، وزعوا العائلة.. النساء الى سجن النساء و(الزلم) الى سجن الرجال، كنا ثلاثة اخوة مدنيين، كبيرنا حسن الذي رباني بمثابة والدي.. أعدم، وحيدرالاصغر مني.. حسن أعدم بعد شهر، مع إثنين من المعتقلين.. ابو نبيل البهادلي وعلوان من أهالي الفضيلية.. أخذهم الجلادون الى نهايتهم العظيمى، شهداء في الولاء لله ورسوله.. قرابين ليحيا المؤمنون بسلام تعمد بحياتهم، التي سفحت في ضغط طوق المشنقة، على عنق لم ينحني الا لله.
لم نعطَ جثامينهم، التي وجدناها في ما بعد، ضمن مقبرة جماعية،… إصطرعت شياطين القلق، في وجداني، بعد ان فرقوا النساء.. والدتي وشقيقاتي الثلاث، بينهن الكبرى، وهي ضيفة مع ابنتها حوراء، ذات الـ ٤٠ يوماً من العمر، والتي أظنها يمكن ان تدخل كتاب غينيس، كأصغر سجينة سياسية، في التاريخ!
وجدت نفسي في معتقل الفضيلية، وقد شت النوى بي، عن أشقائي.. حسن ذهب للإعدام شهيدا، … وجمال وماجد، عسكريان، توقعت إحالتهما الى الاستخبارات العسكرية، ومنها الى ثرامات دجلة، ولكن حمدا لله لم نفقد سوى حسن.
دخلنا المعتقل، وعلامات الثراء بادية علينا، بوضوح، فصرنا مطمعا للسجانة والمحققين وإدارة المعتقل، مع من عائلة متوسطة الحال؛ لأن اخي حسن حداد، يعيشنا برفاه، من كده، ودارنا في شارع فلسطين، الذي يعد راقيا، وسكانه أغنياء؛ الامر الذي يسيل له لعاب سلطة السجن! كلهم يتساءلون: “أنتم أولاد خير.. أيش جابكم لهذه الفكريات المهلكة؛ إذ حكمكم صدام بالاعدام”.
الحقيقة، هي أن ظهور الامام روح الله الخميني ومحمد باقر الصدر.. قدس سراهما، جعل صدام وحشا مع الشيعة المعادين له، ملوحا بتهمة حرة.. طليقة، تبحث عمن يتقبلها، فهي جاهزة.. الانتماء للدعوة،…
أختطف المعتقل سنوات من ربيع عمري، وافرج عن مجموعة منا بعد سنتين و٦ اشهر.. لكنني دخلت طفلا وخرجت كهلا.
عندما دخلنا السجن انا وحسن وحيدر، نظر الينا شخص.. يرحمه الله، يدعى محسن الجبوري.. من الكريعات تأمل أناقة ثيابنا، ملابسنا الانيقة، قال: “جماعة معتقلين.. هذولة ناس شبعانين، حياتهم كلها كاضينها باوربا ليس مثلي كلما اقول لامي: “ضايج” تفتح لي قوطية دبس”.
محسن داود.. اظرف شخصية في المعتقل، يسهب بالثرثرة، مواصلا الحديث، حتى صلاة الفجر، وعندما يكمل حكاياته نقول له: كم سالفة صدك؟ يقول: هن ٥٠ بينهن ٤٦ كذب، والباقي صدك انتوا طلعوها.. من ظرائفه انه يمر من بعيد لاخوته من الام والدته الفرنسية، التي تعمل استاذة في السوربون.. تتمشى في باريس وسحكتها السيارة.
الحراس كانوا من الشرطة، وهم طيبون في الغالب؛ لان معظمهم من الجنوب، حتى مدير السجن.. المقدم محمد الصالحي.. طيب معنا، وهو سني.. مقدم في الشرطة.
من الظرائف العالقة، في ذاكرتي: “عندما هاجمت اسرائيل لبنان؛ نظمنا تظاهرة سنة ١٩٨٢ نطلب تطوعنا لقتال اسرائيل؛ فجاءنا مدير امن بغداد ليسجل اسماءنا.. وقفت الاول في الطابور.. شابا “وكحا”.. طويل اللسان قالوا لنا نسجلكم بقادسية صدام؛ فاول هارب كنت انا، قلنا لهم لو كنا نريد ذلك مادخلنا المعتقل؛ ففتحوا علينا خراطيم المياه وضربونا بالكيبلات، مع دفق ارتجالي، من كلمات نابية.. شتموا اعراضنا واتهمونا بالعمالة والخيانة.
خرجت في 14 ايار، بعفو من صدام فوجدت مجتمعا خائفا علينا من السلطة؛ لان التقرب منها تهمة لاتغتفر. أعطوني بجامة وخمسة دنانير، معتذرين منا، لأننا ابرياء.
تجدد أملي باكمال الدراسة؛ لكن مدير تجنيد الكاظمية، إجتهد بسوقي للحرب.. فمع كونه شيعيا.. من طائفتي، الا انه شتمني واتهمني بالعمالة، لكن “من يتقي الله يجعل له الله مخرجا” إذ انقذني العميد ياسين حمد الذهيبة.. مدير تجنيد الكرخ العام، ناهرا النقيب، يأمره بعودتي للدراسة.
العميد سني من الانبار، هو الذي وقاني عسكرية أصر الشيعي على سوقي لها.
عودا الى شقيقاتي فالكبرى المتزوجة.. هاجرت مع زوجها واولادهما، الى بريطانيا، وشقيقاتي الاثنتين لم يحالفهما الحظ بالزواج من شخص ذي مستوى مقارب، ولأن التقرب منا والتصاهر معنا، يعد جريمة؛ فلم يفطرن على بصلة، وانا اكملت دراستي مع صعوبة المعيشة واصبحت القاضي الذي اسس المحكمة التي قاضت صدام، واعدمته صبيحة العيد بنفسي، بعد ان كنت اول من حقق معه، واخر من صادق على حكمه كقاض في محكمة التمييز، لكن عاقبني حزب “الدعوة” بحجب كل حقوقي التقاعدية، وتنكر المالكي والعبادي، لوعود معسولة، تنصلوا منها، جاعلين حياتي علقما، لو لا عناية الرب..
إلتقيت في السجن جبار سويسرا.. خباز من الكرخ، شتم صدام فحكموا عليه بالمؤبد.. يدعي بانه قاد انقلابا فاشلا، وفي المطار كان يروم الذهاب لسويسرا ومعه جواز دبلوماسي و١٠ الاف دولار؛ فسمي كذلك وهو لايعرف الدبلوماسي ولم يلمس دولارا في حياته..
معنا شخصيات تبوأت مناصب كبيرة بعد سقوط صدام، من الشيعه والاكراد.
يعلق في ذاكرتي، كتابة امجد السواد البصري، على جدار خلفه: “علمني الحسين، ان اكون مظلوما كي انتصر”.. فسأله مدير الامن: هل انت مظلوم؟ فكنت سيد الموقف: “نحن لسنا مظلومين” وانقذته وهو الان مستشار في وزارة التعليم العالي.