المراقب لردود الأفعال المجتمعية للعراقيين حول حوادث كبُرت أو صغرت، سياسية كانت أم إجتماعية أو حتى إقتصادية يرصد حالة واضحة من عدم المبالاة، بل إعتبار تلك الحوادث من الهوامش التي لا تستفز المجتمع أو تدق في مخيلته أي ناقوس لخطر قادم.
إستقبل العراقيون في الأيام القليلة الماضية حادثتين كانت الأولى إلقاء القبض على أم مدمنة حاولت بيع رضيعتها مقابل حفنة من المخدرات، حيث لم يأخذ هذا الخبر حيزاً من تفكير العراقيين بالرغم من أنه يحمل معنى كبير في الإنهيار المجتمعي والتفكك الأسري الذي وصل إليه العراق في ظل حكومات الإسلام السياسي وتفشي ثقافة الإدمان على المخدرات في بلد كان مجرد النطق بهذه الكلمة يعاقب ناطقها بأشد العقوبات، بعد أن تحول العراق من معبر للمخدرات إلى مُستهلك في العقدين الأخيرين.
أما الحادثة الثانية التي إشتعلت بها مواقع التواصل الإجتماعي والإعلام في قضاء شط العرب بالبصرة جنوب العراق تمثلت “بإعدام جماعي” قام به أب لعائلته البالغ عددهم 12 شخصاً من ضمنهم رضيعة ومن ثم الإقدام على الإنتحار بواسطة الكلاشنكوف الذي قتل بها أسرته في صور بشعة تناقلتها مواقع التواصل الإجتماعي لجثث مرمية على الأرض تغطيها الدماء، ويقال إن سبب الإعدام كان بسبب خسائر مادية تعرض لها رب العائلة.
وما بين تلك الجرائم كان الحدث الذي لاينتهي الجدال فيه عن إزالة تمثال الخليفة أبو جعفر المنصور الجاثم في إحدى ساحات منطقة المنصور في العاصمة بغداد ومطالبات بين داعم للإزالة وبين من يرى فيه العزف على أوتار الطائفية التي يلجأ إليها البعض حين تعصف بالطبقة الحاكمة أزمة سياسية.
مواقف وجرائم تتباين في أعدادها وتتركز في مناسبات تخفي في الظاهر الأسباب الحقيقية الكامنة من وراء هذه الجرائم، لكن في العمق المختفي تكمن حقائق وأمور قد تغيب عن أذهان البسطاء من العامة حتى راح المؤكد من الرأي إلى القول أنها أفعال يُراد منها إشغال الشارع العراقي عما يجري في دهاليز السياسة ومخططات يُراد تمريرها بسلاسة وسهولة دون أي معوقات من رفض أو إستنكار شعبي لتلك القرارات.
ولأن خلف تلك الكواليس أسراراً قد تؤثر في القرار الأمني والسياسي ستظل تلك الجرائم تقيد ضد مجهول.
وبالرغم من محاولات حكومة محمد شياع السوداني رسم صورة وردية من الإستقرار والطمأنينة لترغيب الإستثمار الأجنبي وجلبه إلى العراق، إلا إن تلك الجرائم ربما تصنع ثقوباً سوداء في رداء بيئة الإستثمار العراقية وتجعل من الشركات العاملة في العراق تتخوف من مستقبلها المجهول في هذا البلد، وربما تفرز فرضية تقول أن هناك من يريد التشويش على هذه الحكومة وجرها إلى منزلق الفوضى والإرباك لخلق حالة من عدم الإستقرار وتفويت الفرصة على السوداني من الترشيح لولاية ثانية، وتمثل إحراجاً لحكومته في دفع البلاد نحو الإنفتاح والتنمية وتعزيز السلم الأهلي الضروري للبدء بحركة البناء والإعمار.
كل هذه المراحل من جرائم القتل وقصص المخدرات والإغتيالات السياسية لاتحتاج سوى إلى محترفين في النبش بالملفات وإختيار اللحظات المناسبة، وما عليهم سوى تعلم تكتيكات الفعل وردّة الفعل في الوقت المناسب.
ما يحدث في العراق اليوم محزن ومقلق لبلد كان يتمتع بتماسك الروابط الأسرية وينبذ الطائفية حين كانت الطوائف تنصهر فيما بينها بالتزاوج والعلاقات العائلية والجيرة، لكنه التخريب الذي طال الشخصية العراقية وصل إلى الذات، ولهذا دائماً ما يردد الحكماء مقولة “إن التخريب إذا طال الأبنية والمعدات من الممكن إصلاحها أو ترميمها، لكن من يُصلح الإنسان إذا أصابه الخراب” وذلك ما يحدث في العراق.