أول الكلام:
ما كنت قد رأيت بحراً في حياتي ولا جبلاً، حتى حلّ صيف عام 1971 حيث حلت الطائرة في أثينا، ففي مطارها التقى الجبل بالبحر! وتكرر المشهد الذي بقي يؤسرني في سيريناغار عاصمة كشمير، وفي جزيرة الجن “جيجو” من كوريا الجنوبية وفي هوالي ين من تايوان…
على أن البحر رغم هديره وغضبه أحياناً بقي صديقاً له سحره، وأحسب أن شاعراً من قرية جنوبية عراقيه لم يبرحها الا الى العمارة تندر عليه أصدقاؤه حين جاء في إحدى قصائده: “سلاماً أيها البحر، سلاماً أيتها الموجه…”، ولا أجد في الأمر مُشاحّة قط، فعيون الشاعر تحلم وترى ما لا يراه الآخرون تماما كذلك المتصوف الشاعر الذي قال:
قلوبُ العاشقين لها عُيونٌ – ترى ما لا يراهُ الناظرونا
وفي مصر يطلق على نهرها الخالد بحر النيل من باب التعظيم! وغنّت أم كلثوم بصوتها القوي:
يامسافر على بحر النيل – أنا ليّ في مصر خليل!
لكن ليلى مراد غنّت بصوتها العذب الرقراق:
“يا ساكني مطروح – جنيّة ببحركم”
وأجدها هي الأجمل للحس الرومانسي، فتتصور الجنيّه بنصفها المرأة وقد نثرت شعرها ونصفها الآخر سمكة بتنورة من حراشف، إنها كائن جميل يكمن جماله في الانسياب والانحناء! من يذهب الى كوبنهاغن سيرَ جمال الجنية في تمثال في ساحل البحرمن حجر أصم يكاد ينطق! اشتريت نموذجا معتزاً به ووضعته في فيترينه في غرفة الاستقبال.. ثم اختفت الجنية على حين غرّة، ليتها عادت الى البحر!!
***
قبل ثلاثة أيام هدأت العاصفة الماطرة، وحلّت أيام مشمسة، يوم أمس تخففت من ملابسي، وأصبح زيارة البحر وتأمله في هدوئه متعة حيث اللون الأزرق يتدرج من الفاتح الذي يصبح غامقاً عند الأفق، وتتابع الموجات ودودة متطامنة ثم تتلاشى مع الرمال وتتكرر الحالة بهارمونية جميلة.. ويجد الناظر متعة ودعة صوتيه تداعب الأذن..
قبل يومين كان هائجاً حيث تتلاطم الأمواج وتتعاقب بانتظام ثم تأتي موجة عاتية تخرج عن النظام ووقعها صاخب لكنها تتلاشى مخلفة زبداً؛ يتكون الزبد الأبيض غير الناصع من حركة البحر حيث يجرف معه متعضيات أي بقايا الكائنات البحرية المنحلّة مع معادن الأملاح وبكتريا وطحالب..قد يتراكم الزبد ويكون رغوة كثيفة بوجود الفقاعات الهوائية الصغيرة! ثم يتلاشى بعد حين! ” كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)” الرعد:17(.
ومتابعة الطيور المحلقة عند البحر وفي سمائة فيها متعة هي الأخرى، للنوارس حضورها وأصواتها الحادة تشبه التنعاب، وهناك طيور متفاوتة الأشكال والألوان والأحجام، وقد يلمح الرائي صقراً أو طائراً جارحاً يلاحق طائراً أصغر منه وهذا الأخير لا يدخر وُسعاً في الإفلات منه، حتى يتلاشى المشهد كله عن النظر ولا يُعرف مصير الطائر الصغير!
أذهب الى مطعم تديره سيدة عراقية، ورغم أن طبّاخها تركي تساعده سيدة سورية وأخر تركي من أورفا يتكلم العربية، إلا أن الطعام عراقي في معظمه، وأهم ما فيه زاد البحر من أسماك وقشريات..ودجاج ولحم الغنم.. الطعام لذيذ ومعتدل السعر ونظيف للغاية، وطبقي المفضل هو السمك..والأهم هو قليل الملح..
أحب الشعراء البحر ولا أظن أن شاعراً أو فنانا لايُحبه لذا سجّل حضوراً معتبراً في الشعر والآداب والفنون لا سيما التشكيلية!
ومن الجاهليين قال الشاعر الفارس عنترة بن شداد:
يخوض الشيخُ في بَحْر المنايا – ويرجِع سالماً والبحرُ طامِ
أما الشاعر صريع الغواني (مسلم بن وليد الأنصاري) فقد بقي غارقاً في الحب يستنجد من يخلصه ولا من منقذ:
طَفوتُ على بَحرِ الهَوى فَدعوتُكم – دُعاءَ غَريقٍ ما لَهُ مُتعَوَّمُ
ركِبتُ على اسمِ اللهِ بَحرَ هَواكُمُ – فَيا رَبّ سَلِّم؛ أنتَ أنتَ المُسلِّمُ
حَججتُ معَ العُشاقِ في حجَّةِ الهَوى – وإِنّي لفي أَثوابِ حُبِّكِ مُحرِمُ
أما الحّلاج الغارق في بحر من الخطايا كما يصف نفسه:
إلى كَمْ أنتَ في بَحرِ الخَطايَا – تُبارِزُ مَن يَراكَ ولا تَـراهُ
و الشاعر الأمير أبو فراس الحمداني، فيقرّ بفضل البحر الذي يراه رمز السخاء والإلهام حيث يقول:
مِن بَحرِ شِعْرِكَ أغتَرِفْ – وبفَضلِ عِلمِكَ أعترفْ
أنشدتني؛ فكأنَّمَا – شَقَقتَ عَنْ دُرٍّ صَدَفْ
ولا أنسى حافظ إبراهيم حين يقول على لسان اللغة العربية مدافعا عنها:
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ – فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
ويطيب لي أن أذكر الشاعر بدر شاكر السياب:
أطِلي فشبَّاككِ الأزرَقْ… سَماءٌ تَجوعْ
تبيَّنتُهُ مِن خِلال الدُّموعْ
كأنيّ بي ارتجفَ الزَّورقْ
إذا انشقَّ عَن وجهِك الأسمرْ، كما انشقَّ عَن عَشتروتَ المحارْ
وسارت مِن الرَّغو في مِئزرْ، ففي الشَّاطئين اخضِرارْ
وفي المرفأ المُغلقْ، تُصلِّي البِحارْ
كأنيَ طائرُ بحرٍ غَريبْ، طَوىَ البَحرَ عِندَ المَغيبْ
وطافَ بشبَّاككِ الأزرقْ…
والشاعر الفلسطيني لطفي زغلول فيجعل حبيبته معادلاً موضوعياً للبحر بل ينكر كل البحار إلا حبيبته في هدوئها وفي مدها وجزرها الذي لا يطاوله مده ولا جزره، إنه وصف العاشق المحب الذي يرى في حبيبته الكمال، فلنقرأ:
لأنَّكِ بَحرٌ بِلا أيِّ شَطٍّ، بلا أيِّ حَدِّ
نَزلتُ أُغالِبُ أَموَاجَهُ العَاتِيَاتِ، بِجَزرِي ومَدِّي
أُجَذِّفُ لَيلاً نَهارا…. فَأُنهِي مَسارَاً وأبدَأُ حَالَ انْتِهائِي مَسارَا
أَحُطُّ عَلى قَمرٍ خَلفَ هَذا المَدى يَتَوارى
وحِينَاً عَلى نَجْمةٍ أسْفَرَت وَجْهَهَا وتَعَرَّت جِهَارَا
وحِينَاً علَى جُزُرٍ بدَأَت مَوسِمَ الاصْطِيافِ
وعِيدَ قِطَافِ الرُّؤى والقَوَافِي
لأنَّكِ بَحرٌ هَجَرتُ البِحَارَا، وأعلَنتُ:
لا بَحرَ إلاَّكِ يُبْحِرُ فِيهِ شِرَاعِي، ويَرتَادُهُ فِي المَدارِ مَدارَا
وقالت الشاعرة وئام ملا سلمان، التي طالما يتردد ذكر البحر في قصائدها، دونكم بعض ما قالت متغزلة بقميص حبيبها المنقوط بالأزرق:
قميصُك المنقوط بالأزرقِ – مَن أيقظ الإحساس في الخافقِ
وحرّك الموجَ الذي بي غفا – وقال لي حذارِ أن تغرقي
وكيف لا أغرقُ في بحره – فمن غشاه العشقُ هل يتقي؟!
يا حُبَّه لو شئتُ شبهتُهه – صنو امتزاج الراح بالرقرق
الحديث عن الشعر والبحر طويل ومتشعب فكل شاعر ينظر اليه بمنظاره الخاص وبفلسفته الحياتية..لكن لا بد من الخروج من الشعر لنرى أن البحر الذي هو رمز لسعة المعرفة، لم يكن كافياً لدى الفيروزابادي لأجل هذا سمّى معجمه ب “المحيط” الذي هو أوسع من البحر وأعمق، ثم جاء بعده بطرس البستاني ليزيد على المحيط ويضيف وينقح ويتصرف في أمور اللغة مع المحافظة على أسلوب الفيروزبادي فغدا المحيط ” محيط المحيط”!
الخامس من شباط 2021