23 ديسمبر، 2024 8:35 ص

يتم صناعة وخطورة الاعداء بموجب دراسات للمؤسسات الاعلامية والعسكرية والاستخباراتية وعبر التهميش وقصور النظر والتدبير !!!

يتم صناعة وخطورة الاعداء بموجب دراسات للمؤسسات الاعلامية والعسكرية والاستخباراتية وعبر التهميش وقصور النظر والتدبير !!!

كم مرة وعبر ممارسات مشبوهة ومظللة ومختلفة في التفاصيل ينجح البعض في صناعة الأعداء

كم عدد الآباء الذين حولوا أطفالهم إلى مجرمين بسبب قولبة الطفل ! أي وضعه في قالب جامد والتعامل معه دوماً على أنه لا ولن يفلح !

كم عدد المديرين الذين أسقطوا موظفين لديهم معنوياً وحسياً عبر مبادرات فاشلة من التهميش والإقصاء، وقل ذلك على كافة المستويات ومختلف الأصعدة. لن يكون كل ضحية بالضرورة لكن ماذا عن الذين سينزوون ويمارسون الكثير من الأذى لأنفسهم أولا ولغيرهم جراء مواقف جرتهم إلى اتخاذ مواقف عدوانية كان يمكن أن يتم الابتعاد عنها بشيء من الحكمة. لا أحد يقبل مبررات المجرمين والساقطين والفاسدين, ولا أحد من العقلاء يعتبر أن المعاناة بالضرورة تصنع الفوضى والسوء, وإلا لما كان أكثر الناجحين والمبدعين هم من تلك الأصناف التي تعرضت لأنواع من المعاناة تحديداً.

لكن الحديث عن صناعة الأعداء عبر مواقف كان يمكن تجاوزها بهدوء, في القرآن الكريم تم نهي المؤمنين عن سب آلهة المشركين لأن ذلك السلوك سيفضي إلى مفسدة أكبر,وبالتالي فإن الحكمة هي المطلوب الأول في هكذا مواقف, وإن ميادين التربية التي تضج بالكثير من المواقف اليومية على مدار الدقيقة هي الأكثر خطورة وحساسية.

وكم قرأنا وسمعنا عن أن موقفاً صغيراً واحداً وغير مقصود في الغالب كان القشة التي هزعت كفة الميزان النفسي أو العقلي لدى الإنسان فدعمته للأمام وحفّزته للأفضل, أو سببت له انهياراً مفاجئاً قلب كيانه وأذهب تحكمه وإدارته المناسبة للذات ولكي لا يقرّب الكثير من المظلومين والمضطهدين والمسحوقين مربط نعاماتهم فلنتوقف جميعاً عن إرسال المزيد من الرسائل السلبية عبر مواقف صغيرة لكنها مؤذية..

قال تعالى: “‏مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً..”

“ما هي الحرب، ومن هو العدو؟” تقدّم الرؤى القانونيّة أجوبة متعدّدة، فالحرب “نزاعٌ بين دولتين تملكان جيوشًا نظاميّة وهي فعل إراديّ”، ويسبق بدء الأعمال العدوانية إشارات ومقدمات مختلفة، ومنذ ذلك الحين يصبح الجندي غير مسؤول جزائيًّا عن الأشخاص الذين يتسبّب بقتلهم ضمن حدود قانون الحرب، وتضمن معاهدة جنيف لعام 1949 معاملتهم ضمن إجراءات معيّنة.

لا تتّفق سائر الدول والثقافات على هذا التعريف أو على التفصيلات الواردة في اتفاقية جنيف، فثقافة اليابانيين مثلًا ترفض الاستسلام والوقوع في الأسر وتفضّل الموت عليه، وبناءً على ذلك لم يكن لديهم مشكلة في قتل الأسرى أو منعهم من الطعام وتعذيبهم حتى الموت.

تعمَد الدول في الأعمال الحربيّة -الموجّهة لمواجهة خطر ما تحت أي بندٍ- إلى وصم أعدائها بصفات مختلفة تُفقِدُه هويّته القانونيّة، كأن تصفه بالثائر أو المتمرّد أو الإرهابيّ أو المتطرّف أو المخرّب، ممّا يضع التعامل معه في الحد الأدنى من الحقوق سواءً في الحرب أو في حال القبض عليه .

في السياق ذاته تظهَر معضلة قانونيّة في مشكلة اعتقال المدنيّين الذين يشاركون في الأعمال الحربيّة ضد دولة غازية لأرضهم، حيث يمكن أن يعامَل الفرد منهم كـ مجرم ويدان على أساس قانوني أو وفق تشريعٍ ما أو بابتكار فئة قانونية جديدة لتصنيف الأعداء كما فعلت الولايات المتحدة التي ابتكرت فئة “المحارب غير الشرعيّ” غير المعروفة في القانون الدولي، وذلك لتسويغ السجن والتعذيب والسجن التعسفي لعددٍ كبير من المعتقلين بينهم أطفال.

لا يمكن الاقتناع بأن قانون الحرب ينطبق على أطراف القتال كافة، بل هو في حقيقته عمل أحاديّ الجانب يشابه منطق حكم القوي على الضعيف من ناحية حيث يكون جنود الطرف الأقوى محصّنين ضد العقاب، كما أنّه عصيّ على التطبيق في نواحي أخرى فتتوسّع دائرة المنخرطين المحصّنين فيه على نحو مفجِعٍ وساخر ليشمل الشركات الخاصّة كما في حالة الشركات الأمنية الأمريكية في العراق .

لم تفِ التفرّعات القانونيّة والسياسيّة بتوصيف العدو ولذلك كان لا بدّ من اللجوء إلى الفلسفة وعلم الاجتماع لبناء رؤية أعمق في فهم معنى العدوّ.

يلبّي وجود العدوّ حاجة اجتماعيّة، وعادةً ما يكون جزءًا من مُتَخَيَّل جمعيّ خاصّ بالجماعات على اختلاف انتماءاتها، فالعدوّ “أنا” أخرى نلوّنها بالأسود –بحسب تعبير المؤلف- ونجعلها عدوًّا مهدِّدًا ليبدو استخدام العنف ضدّه شرعيًّا ومسوَّغًا، ويشير الفيلسوف جان فرنسوا بايار في كتابه “وهم الهويّة” إلى أنّ الوقائع السياسيّة ليست موجودة بشكل مختزل وبسيط كما نتوقّع، وإنّما هي موضوعاتُ تفسيرٍ وفق “محدّدات معرفيّة وعاطفيّة ورمزيّة” خاصّة في كل مجتمع، ويشكّل المجال السياسيّ مسرحًا لفهم أهمّية أفعال الناس وصداها وإدراكها، وتدخل عمليّة صناعة العدوّ ضمن هذه الآليّة ، حيث يعاد به صنع وحدة الجماعة والهوية القوميّة، وتصبح الجماعة المعادية الكيان المُعدّ ليضحّى به.

يضرب المؤلف بباكستان والهند مثلاً واضحًا، فالبلدان لا يمكن لمجتمعاتهما أن تتوحّد بعرقيّاتها وهويّاتها المختلفة إلا بالعداء المتبادل، وكذلك فإنّ السياسيّين اليونانيين والأرمن يحتاجون لوجود عدوٍّ تقليديٍّ متمثّل في تركيّا لضمان وصولهم للسلطة .

ولا ينفي ذلك –بطبيعة الحال- أنّ هذا التحليل يصلُح في الديمقراطيّات التي يقع مواطنوها ضحيةً لدعايات الترويج “البروباغندا” الخاصة بها ، خاصّة مع الدعايات المحرّضة على القلق المستمرّ تحت دعاوى مختلفة كالأمن الغذائيّ والإرهاب والتطرّف وانتشار الأسلحة النوويّة والأمن المعلوماتيّ والجريمة المنظّمة والأمراض المختلفة بدءًا من نقص المناعة المكتسب وصولاً إلى الأنفلونزا والبدانة، حيث يمكن لمشاعر الناس أن تنهار أمام التنبّؤات والدعايات المتعلّقة بهذه المخاوف، ولذا لا بدّ من دعايةٍ مهدّئة تشير إلى العدوّ وتظهر النصر عليه في الوقت ذاته بهدف التغلّب على المخاوف الجماعيّة.

وهنا يأتي دور الإنتاج الإعلاميّ والسينمائيّ والأدبيّ في استثمار سوق الخوف وضخّ مسلسلاتٍ وأفلامٍ ورواياتٍ وتحليلاتٍ مستمرّة تُظهِر العدوّ وتعطي قرار الحسم بالانتصار عليه معًا كما هو الحال –على سبيل المثال- مع تشكيل صور رجال الاستخبارات الألمان والسوفييت الباردين الذين لا يمتلكون المشاعر، أو من خلال تصوير تنظيم القاعدة خطرًا أسطوريًّا والتركيز على هيئات الجهاديين الذين يعيشون في كهوفٍ من الماضي وهم يتحمّسون لإبادة الحضارة الغربية، وتصوير خصومهم -في السياق ذاته- أبطالاً يحقّقون معجزة النصرِ بالإصرار والصبر.

إنّ هذا التحريض ضدّ العدوّ المُتخيَّل كفيلٌ بأن يدفعَ قسمًا كبيرًا تلقائيًّا من مواطني الطرف الأقوى إلى تقبّل العنف الموجّه ضدّ أعدائهم وضدّ المناطق التي يعيشون فيها، فالعدوّ “أصبح عبارة عن كُلّ” ويمكن قتله وقتل من يعيش معه بشكلٍ شرعيّ، وهذا يُخبِرنا أيضًا أن العدوّ يُصنَع في سياقاتٍ اجتماعيّةٍ وثقافيّة في الدرجة الأولى.

تلعبُ اللغة دورها في تسويق الفعل الواحد على أوجهٍ متعددة فعمليّات التنظيمات الجهاديّة والميليشيات المختلفة هي “أعمال إرهابيّة” وقد ينتج عنها وقوع عدد كبيرٍ من القتلى نتيجة الاستهدافات التي تقوم بها، إلا أنّها ليست أفظع من القصف الجويّ ضد المدنيّين بالرغم من تسمية القصف بأنه “دقيق الأهداف”.

على المنوال ذاته يظهر مصطلح الإخفاء أو الاعتقال القسري، فإن توصيفه يتغير بتغيّر العدو، فإن كان الفاعل في أمريكا الجنوبية فيقال عنه “احتجاز رهائن” أما إن كان الفاعل “إسرائيل” فهو “اعتقالٌ إداريّ” أما إن كان الفعل من قبل جهاديّيّن فهو “عمل إرهابي” و”اختطاف” .

بناء على تطوّرات صنع العدوّ يأتي دور السياسي الذي يختار عدوًّا ويزيح آخر أو يؤجّله، فإيران –بنظر المؤلّف- أقل إرهابًا من دولة باكستان التي لديها سلاح نووي وتتمركز فيها عدة جماعات متشددة وتنظيمات إسلاميّة مسلّحة، إلا أنّ واشنطن التي اختارت التحالف معها جعلها في مصافّ الأصدقاء لا الأعداء، وكذلك يرى المؤلف أن السعودية أكثر تطرّفًا من إيران؛ إلا أنها على الرغم من ذلك حليف لأغلب الدول الغربيّة .

وهنالك الالتزام “التأليهيّ” للحرب، حيث يُقدَّس المحاربون من قِبَل المواطنين وكذلك تُقدَّس نتائج الحروب وذكرياتها سواء في القيمة المعنوية أو المادية من خلال نُصُب قتلى الحروب ومتاحفها، كما يُتغنّى بمجد المقاتلين الذين ينتصرون في معاركهم وإن كان فيها إبادة جماعيّة للخصوم.

الحرب ممجدّة أيضًا علمانيًّا ولكن بشكل مختلفٍ عن التمجيد العقائديّ والدينيّ، ففرنسا تمجّد معارك نابليون في أوروبا، على الرغم من رفضِ الدول التي غزاها لهذه المعارك، حيث تسهم احتفالات الانتصارات والهزائم والذكريات على حدٍّ سواء ببناء التصوّرات الجماعيّة لهويّة المجموعات المستهدفة، وكذلك تقوم أنظمة الدول بأجمعها بزيارات رسميّة لنصب الجندي المجهول، إلا أن إحداها لم تدشّن تمثالاً يلعنُ الحروبَ ويرفضها، ويعود ذلك إلى أن إقامة مثل ذلك التمثال يوحي بإهانة لتضحيات المحاربين.

وكذلك نرى الدول والأنظمة تسوّغ الهزائم، فمقتل الجنود أو انسحابهم يغدو ملحمة مع تقادم الزمان، وما هي إلا قراراتٌ رسميّة وبعض الزمن حتى تمحى المسؤوليّة في ذاكرة الأجيال بالتوازي مع العمل على ترسيخ طرفٍ ما باعتباره يرمز للعدوّ .

يمكن تعريف الحرب بأنها ضرورة للتطهير، ولذلك فإنها كثيرًا ما تأتي كخلاصٍ بعد الهزيمة أو الإذلال، ويضرب المؤلّف لذلك أمثلة لانضمام بعض الديمقراطيّين إلى صفوف الجمهوريين إبّان فشل جيمي كارتر في حلّ مسألة الرهائن في السفارة الأمريكية في إيران، كما ينتمي كثير من المحافظين الجدد إلى جيل صدمة الهزيمة في فيتنام، ولذا فإنهم ينتقدون صدمةَ دبلوماسيّة حقوق الإنسان، ويرون أنّ الحلّ يكون برفع الإنفاق على خطط التسليح وتفوق الجيش، وكذلك كانت حرب 1967 سببًا للجرح النرجسي الذي أصاب الاشتراكيّين العرب وبدا ذلك دافعًا لالتفات مجاميع كبيرة من الشباب نحو الإسلام فيما عُرف بجيل الصحوة لاحقًا

عادة ما تُستخدم شرعنة القوة بهدف البرهنة على أن “الحرب عادلة” نظرًا للأهداف التي قامت من أجلها كـ”التحرير” أو “جلب الديمقراطيّة”. ويرى كارل شميت في هذا السياق أنّ الحرب العادلة يجب أن ترتكز على عدالة القضية وليس على أفكار الأمراء والملوك كما كان الحال في القرون الماضية، وذلك لأنّ عدالة الحرب تفسح المجال لحربٍ غير محدودة نظرًا لعدم اعترافها بشرعيّة العدوّ، بينما ترتكز حروب الأنظمة الملكيّة على النزاعات مع ملوك آخرين.

تتطلّب فكرةُ عدالة القضيّة تفسيرًا معمّقًا ولتسويغ العداوة لا بدّ للطرف الآخر -أي العدوّ- أن يظهر نفسه من خلال أفعالٍ عدوانيّة، وهو ما احتجّ به رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير حين ادّعى أنّ نظام الرئيس العراقي صدّام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل وصواريخ يمكن نشرها خلال خمسين دقيقة، ويلفت النظر إلى أن الجهاديين الذين قادوا الطائرات لضرب البرجين كان بإمكانهم قتل عشرات الآلاف من الناس لو كان بأيديهم أسلحة كالتي يملكها صدام، ولذا فإنّ على بريطانيا -وحلفاءها- أن تتحرّك قبل أن تقع في أيديهم .

لو أخذنا الحرب التي قامت بها الولايات المتحدة في العراق فإننا نجدها تحت بند الحرب الاستباقيّة التي استفاد المحافظون الجدد من تنظير كلٍّ من كارل شميت والأنثروبولوجي ليو شتراوس لها، فقضيّة الحرب العادلة تنطلقُ تحت بند المصلحة العامة والخطر المهدِّد، وهو ما استطاعت الولايات المتحدة الترويج له من خلال مصلحتها في القضاء على نظام الدولة المارقة.

يلفت بيير أن هذا الخطاب أعان على ظهور مصطلحات مختلفة كالأسلحة الذكية، أو معارك “صفر ضحية” بغية التأكيد على أن هذا النوع من الضربات الاستباقية قابلٌ للسيطرة عليه تمامًا، فلا تأثيرات جانبيّة على المدنييّن، وإن تمّ فيكون متدنّيًا لأقصى الدرجات، ويمنح الجنود مسافة أمان وحماية قصوى قبل الدخول في المعارك، ولكن الحال أن هذه الأسلحة المناسبة لمكافحة الإرهاب أثبتت أنها تقتل كأي وسيلة حربيّة تقليديّة أخرى، فحين تُلقى قنبلة تزن نحو 500 كغ على منزلٍ يسكنه “إرهابيّ” في غزة أو باكستان فإنّ “منزله” و”حيّه” وكلّ ما حولَه يتم تدميره كما يسقط نتيجة ذلك عشرات الضحايا؛ إلا أن هذا لا يشكّل عائقًا أمام الذهن الأمريكيّ الذي اخترع نظريّة العنف الضروري والمقبول .

بناءً على ذلك يمكن أن يكون التعذيب متاحًا وقانونيًّا لأن معتقلي “الإرهاب” ليسوا جنودًا أو دولة، ولذا فهم محاربون غير شرعيّين لا تُطبّق عليهم اتفاقات جنيف، كما تتحوّر حروب العصابات تحت هذه الأفكار من حروبٍ غير تقليديّة إلى حروبٍ هجينة أو غير متناظرة، ويشكّل قربُ أي تهديد عاملاً يسمح باستخدام القوة، وهنا تؤدّي وسائل الإعلام دورها في إقناع الرأي العام بقوة هذا التهديد وفوريّته، كما تتيح التسويق للأكاذيب كالإعلان عن الصلة التحالفيّة بين بن لادن وصدام حسين أو قرب امتلاك قنبلة نووية لإيران منذ عام 1994 ثم عام 1996، ثم 2000 ثم 2006، ثم 2011، ثم 2014، ثم 2019 .

“الحرب هي، قبل كل شيء، ترخيص ممنوح شرعيا لقتل أناس لا نعرفهم، أو أحيانا نعرفهم حق المعرفة على غرار الحروب الأهلية،.. إن الحرب هي اللحظة غير الطبيعية، إذ يمكن معاقبة من يرفض قتل العدو بالموت، لذا يتعين علينا القيام بذلك عن طيب خاطر والاقتناع بما نفعل”.

يتقبل معظم البشر هذه الحقيقة المرّة ويسلّمون بواقعيتها، دون أن تستوقفهم الكيفية التي صار بها العدو عدوا، وما إذا كانت هذه (العداوة) تستحق الذهاب إلى حرب مدمرة، قد يكون الرابح فيها خاسرا على كل الأحوال، أو طرفا ثالثا تزدهر مصالحه باستعار نارها. حول الآليات التي تنشأ بواسطتها علاقة العداوة، وكيفية تغذيتها وتطويرها وصناعتها بالأساس يدور كتاب الباحث والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا “صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح”، الذي يستهله بسؤال: هل العدو ضرورة؟.

التنظير الاستراتيجي والسياسي والعسكري لم ينشغل يوما بالطريقة التي يتم بها اختيار العدو، وركز دائما على ملامحه البنيوية والاستراتيجية؛ حالة القوات المسلحة، الميزانية العسكرية..الخ. لكنه لم يسع لمعرفة كيف يحدد مجتمع ما أعداءه، مكتفيا باستعادة عبارة الجنرال والمؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز”الحرب ليست سوى مواصلة السياسة بوسائل أخرى”. وهي عبارة تعجز عن تفسير الحروب الأهلية، والمجازر الكبرى، والأعمال الإرهابية، والنزاعات الدينية، فضلا عن الحرب النووية بحسب ما يرى كونيسا مستشهدا بما قاله حائز نوبل، العالم النووي السوفييتي أندريه سخاروف: “ستكون الحرب النووية الحرارية شيئا مختلفا عن مواصلة بسيطة للسياسة بوسائل أخرى، ستكون وسيلة للانتحار الجماعي!”.

والعدو عبارة عن عملية بناء، تبدأ صناعته بتبني أيديولوجيا استراتيجية محددة، وإطلاق خطاب خاص بها، يغذيه صنّاع رأي أسماهم “محددي العدو”، وأخيرا آليات صعود نحو العنف. لكنه يتساءل أيضا “لماذا العدو؟” وهل هناك حاجة اجتماعية وسياسية لوجود العدو في المجتمعات المعاصرة؟

يبدو أن العدو هو بالفعل كذلك. “هو جزء من متخيل جمعي خاص بكل جماعة. إنه أنا آخري، يجب أن نجعلها غيرية، نلونها بالأسود ونجعلها مهدِدة لكي يبدو استخدام العنف شرعيا”. يقول كونيسا: “إن العدو قد يكون موحِدا للجماعة، محددا لهويتها ومميزا لها. كما يمكن توظيفه كمهدىء لحالات القلق الجماعي، فعلى الرغم من أن الدول المتقدمة تعيش أمانا مثاليا، “اخترعت” ما يسمى بـ”مبدأ الحيطة” الذي يضفي طابع الكارثية أو المأساة على أخطار محتملة بعيدة التحقق، ما جعل مواطنيها في حالة قلق دائم وانتظار لحماية السلطات لهم من كل ما هو غير متوقع.

يمثّل نشر الأفكار رهانًا كبيرًا، ولذلك فإن طرقًا مختلفة تتبعها الديمقراطيات والدول لتسويق رؤاها بدءًا من دور المراكز الاستراتيجية في صناعة الفكرة وتوجيه صُناع القرار لها والترويج لها في مراكز الفكر العالمية الأخرى مرورًا بدور الاستخبارات في تكوين شبكات جمع المعلومات وتحليلها وتسريب معلومات أخرى إلى جهات معينة لاستهداف أعداء معينين –كتسريب معلومات للمقاومة الأفغانيّة لاستهداف السوفييت- أو بهدف إجراء انقلاب ما والكُتّاب والمحللين والإعلاميين الذين يسهمون في تكوين الرأي العام ودفعه للتعبئة والتحشيد تجاه مسألة ما، سواء كان ذلك بروايات أسطورية أو أيديولوجية أو قومية أو محض اختراع لا يستند إلى دليل، مما يشكل مادة للصحافة والسينما التي تستثمر في سوق الخوف والقلق وتزيد من جاهزية الشعب لتصديق التهديد القادم من “العدوّ” .

يقوم فنّ التحريض والتوجيه على عالَم معقّد ومتماسك من القواعد والتركيبات، وهنا لا بد من نوابضَ تحمل هذا الخطاب وتجعله مقنعًا يتمتّع بالعقلانية .

أوّل هذه الأفكار هي: “كل شيء استراتيجي”: فالخطاب علميٌّ وله موضوعات قابلة للقياس، ويعتمد مصطلحات دقيقة مثل “رقعة الشطرنج” و”أحجار الدومينو”، حيث تُستخدم هذه المصطلحات للبرهنة على خطر العدوّ وتهديده، والمهمّة هنا هي “استثارة الوعي”.

أما الاستراتيجيّة الثانية للاستثارة فهي التأكيد على أن “كل شيء مجازفة” فأي تأخير في الاستجابة لما يهدّد الوطن هو مجازفة بأمانه، وذلك مسوّغ للحركة أو الحرب الاستباقيّة قبل وقوع الخطر، إلا أنّ الأمر يبقى دومًا على خلاف ما يُسوّق فتنبؤات الستّينات أشارت إلى أنّ عدد الدول التي ستكون لها قدرة نووية في عام 2000 ستبلغ 25 دولة، إلا أنّ عددها في واقع الحال لم يتجاوز تسع دول فقط .

ختامًا تظهر “الازدواجية” واحدة من أهمّ استراتيجيّات التحريض وصناعة الرأي العام في تقييم الأحداث، فلا مشكلة في التعامل مع دولة متطرّفة حين تكون حليفة، إلا أنّ تعامل دولة ما مع دولة أخرى عدوة أمرٌ يسهم في زيادة التوتر ويهدد الأمن العالمي، وحين تأتي الانتخابات بخصم لا يرغب العالم في التعامل معه فإن الديمقراطية تكون خطرًا، في حين أنّ الديكتاتورية التي تورّث الحكم من الوالد إلى الولد توصف بأنّها ضرورة يجب التعامل معها لحفظ الاستقرار، وكذلك فإن التحالف ضدّ العدوّ ضرورة لا بدّ منها لأوروبا وأمريكا في وجه التحالفات الأخرى، إلا أن حلف الناتو لا يعرّف عدوًّا محدّدًا منذ انهيار حلفي وارسو والاتحاد السوفييتي

إن كان لا بدّ من بناء عدوّ فلا بد من اختيار تصنيف يندرج تحته، وضمن هذا الإطار يقترح بيير عدّة تصنيفات لحالات الحرب وسيرورة صناعتها، بدءًا من:

1. “العدو القريب” أو الجار الذي يتم التنازع معه تقليديًّا حول خلاف حدوديّ، فتكون “الأرض” قضية النزاع وسبب الحرب هي “نزع الملكية” بعنف .

2. أمّا “الخصم العالميّ” أو “المنافس الكوكبي” فيأتي بسبب التنافس في السياق العالمي، كحالة الحرب الباردة، أو تنافس الدول الاستعمارية على النفوذ في العالم، وتكون الحرب ههنا إظهارًا للقوة بهدف السيطرة على مساحات من خرائط النفوذ .

3. ثالث التصنيفات هو “العدو الحميم” ويقصد بيير به الحروب الأهلية، حيث يكون الآخر جزءًا من الأرض الواحدة، وعلى الرغم من أنهم كانوا يعيشون في سلام ظاهريًّا على الأقل، إلا أن الحرب تبدأ بكلمات ثم تتحوّل إلى إطار “اقتُل قبل أن تُقتَل” على مبدأ التطهير الفصامي .

4. أما التصنيف الرابع فهو “العدو الهمجيّ” أو ما يراه المحتلّ للشعبِ الذي يحتلّه، وحينها يكونون برأيه “متخلّفين لا يفهمون سوى لغة القوّة” ويكون قمعه “الطريق لإحلال السلام” .

5. إلى جانب هذه التصنيفات ثمّة تصنيف خامسٌ يتطرّق الكاتب إليه، وهو “العدوّ المحجوب” المتخيَّل من خلال “نظريّة المؤامرة” وتكون الحرب ههنا برأيه نتيجة رُهاب هذيانيّ يتمظهر بشكل دمويٍّ منتظمٍ .

6. في التصنيف السادس لا بدّ من التطرّق للعدوّ ضمن نظرية “حرب الخير ضدّ الشر” أو حرب “القضيّة العادلة” فإنها لا تقتصر على النزاعات الدينيّة، بل تدخل فيها أيديولوجيا الأنظمة الشموليّة، حيث يستهدف إلغاء أي تهديد من الآخر بوصفه شيطانًا يحتاج طرده إلى عمليّة تطهير.

7. الحرب “الاستباقيّة” ضد “عدوٍّ متخيَّل أو مُتصوّر” هي حرب وقائيّة، تكون الدعاية الاستراتيجيّة فيها ضرب العدوّ في أرضه قبل أن يصل إلى خصمه، رغم أنه لا يجاريه قوةً أو عددًا، ولكنه يحتاج لمحاربته ليُطلِق صراعًا شاملًا، كما في حالة الحرب ضد الإرهاب، وانتشار أسلحة الدمار الشامل .

8. وأخيرًا ثمة “عدوٌّ إعلاميٌّ” وقد تشكّل هذا النمط بشكل واضح بعد الحرب الباردة، وتتفوّق في هذا النمط “الصورة” على النص، ويقود تحديد هذا الصنف من التهديد مثقّفون وإعلاميّون وأشخاصٌ يعملون في المجال الإنساني، أي أنه لا يتشكّل عبر مراكز التفكير الاستراتيجيّة .

وأنّه من الممكن العيش دون عدوّ، فما دام العدوّ مصنوعًا ومبنيًّا بجهود واستراتيجيّات مختلفة فمن الممكن تفكيكه استنادًا إلى استراتيجيّات مختلفة .

وعن سؤال “الكيفيّة” عن ذلك أمثلة واستراتيجيّات عديدة ضمن أساليب حلّ عدد كبيرٍ من النزاعات التي شهدها العالم، فيرصد حالات المصالحة والاعتراف بالمسؤولية كما فعلت ألمانيا 1945، حين اعترفت بالمسؤوليّة عن التسبّب في الحرب العالمية الأولى ويشير إلى اتّفاقات حلّ النزاعات الحدوديّة، ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك اتفاقيّة شينغين التي فتحت الحدود بين الدول الأوروبيّة فمن خلالها زالت الخلافات الحدوديّة بين ألمانيا وفرنسا، وصارت حدود فرنسا اليوم هي مطار شارل ديغول، أو من خلال اتّفاقات النسيان المتبادل كما في حالة الاتفاق المحلي بين السلطات والمقاتلين في الجزائر أو الاعتراف كما في حالة اعتراف المنخرطين في الحرب الأهلية الإسبانية بجرائمهم، أو تطبيق العدالة وهي نوعان:

1. العدالة الترميميّة: وهي اقتصاصية تهدف لإقامة العدل بحق مرتكبي الجرائم الجماعية.

2. العدالة التعويضية: وهي غير اقتصاصيّة، فتهدف للانتقال من حالة الحرب إلى السلم.

بالتوازي مع ذلك يشير المؤلف إلى سُبل أخرى للخروج من حالة الحرب والعداوة كخطاب رفض الحرب والنسيان ولو كان أحادي الجانب .

يعدّ بناء العدوّ عمليّة اجتماعيّة وسياسيّة وبهذا المعنى فإنّ مسؤولية النخب السياسيّة والثقافية أكبر وأكثر دلالة في سياق صناعة الحرب والترويج لها، ومن الممكن ألا يكون للدكتاتوريات نواياً عدائية أو حربية تجاه جيرانها أو الآخرين، في حين أن بعض الدول الديمقراطية تبني طموحاتها المستقبليّة على التوسّع في النفوذ والاستعداد للحرب رغم أنّ ميثاقها الاجتماعي يدّعي المساواة والسلمية وحرّيّة الرأي.

وأنّ قطاع صناعة العدوّ في المستقبل سيكون قطاع إنتاج ضخم على الرغم من قناعته بأنّ الحرب ليست أمرًا حتميًّا، وإنما هي نابض للسلوك البشري يمكن التخلّص من اهتزازاته ببذل مزيدٍ من الجهد قبل شنّ الحروب والذهاب إلى ساحة القتل ممّا يسهم في استباق أسباب النزاعات وتقليصها.

بالمقابل من ذلك يمكن أن يؤدّي السياسيّون والمسؤولون والمفكّرون دورًا أساسيًّا في آليّات تفكيك العداوة، كما فعل نيلسون مانديلّا على سبيل المثال بالتخلّي عن الانتقام من زعماء نظام الفصل العنصريّ وذلك في مثال عمليّ على إمكان تلاشي دوافع الانتقام عبر الاعتراف وأخذ زمام المبادرة بالصفح