المتابع لما يجري في العراق لايمكن له الا الخروج بأستنتاج واحد وهو أن البلد ماض وبخطى متسارعة بالسقوط في أتون حرب اهلية كاملة ومن ثم التقسيم والتمزق. المؤشرات والقرائن التي يمكن الاستدلال بها بهذا الخصوص كثيرة ويمكن تشخيص بعضها بدقة. والتداعيات التي ستترتب على هذا المصير ستكون بلا شك أشد قساوة ومأساوية. و قبل الولوج في هذا الموضوع اقول لنترك الكورد لانهم اسسوا فعلا دولة متكاملة الاركان و موضوع فك ارتباطهم ببغداد بات مجرد مسألة وقت وتكتيك ليس ألا. المهم بهذا الخصوص التذكير بمعادلة بديهة وهي ان استمرار ضعف وعدم استقرار الجزء العربي من العراق يصب بالضرورة في مصلحة الكورد لاستكمال تاسيسس دولتهم وبسط نفوذهم على ما يسمى “بالاراضي المتنازع عليها”, وقد بدأت هذه المرحلة فعلآ مع انهيار القوات الامنية في محافظات نينوى و صلاح الدين والتأميم, اضافة الى احكام السيطرة على مصادر الثورة النفطية في كركوك.
ولنعرج الان على سنة وشيعة العراق ولا اقول عرب العراق, فالقومية العربية الهوية التي كانت المظلة التي يقف العراقيون متحدون تحتها لم تعد الهوية الاولى. فقادة عراق مابعد الاحتلال اصبحوا يخجلون من انتمائهم العربي وقد سلخوا العراق عن هويته العربيه الاصيلة. الامر الذي اضعف احد أهم اواصر الاخوة واقوى القواسم الجامعة للعراقيين بمختلف طوائفهم. وقد باتت فكرة القومية العربية وامل الوحدة العربية رجس لايجوز البوح به بل واضحت هذه التطلعات الانسانية القومية المشروعة مرادفات للفا شية والعنصرية والارهاب. هذه الدعارة الفكرية تتناغم تماما مع سياق الفكر الصهيوني المقيت وتخريف وتحريف الاستعمار الجديد. وقد اصبح هذا المنظور الاخرق سياسة ثابتة يتم على اساسها اقصاء وتهميش الوطنيين والشرقاء من ابناء العراق.
ولان للقصة بقية فقد اختزلوا التاريخ العربي العظيم والحظارة العربية الاسلامية الخالدة الى مجرد صراع كما قال رئيس الوزراء اياه, وبالحرف الواحد, بين “انصار يزيد وانصار الحسين … يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة وهذا يعطينا رؤية بأن الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنتهي وانما لازالت فصولها التي نعيشها اليوم من الارهابيين والطائفيين والحاقدين على الاسلام واهل البيت …” (خطاب مسجل). اذا الصراع لازال دائرا حتى اليوم ولم تنتهي فصوله بعد بين انصار يزيد وانصار الحسين (هكذا!). وقد رافقت هذه التراهات الفكرية التي ترمي الى زرع اسفين الفرقة بين الشعب العراقي الواحد الغلوب على أمره ممارسات و تطبيقات عملية لتجذير وتعميق الانفصام على الارض وهي كثيرة … والتى لاهدف لها سوى بلورة هوية تعلوا على الهويات الوطنية والقومية العربية وخلق التضاد الثنائي “نحن” و”هم” (معسكر يزيد ومعسكر الحسين!). التخريصات الفكرية والممارسات العملية هذه تتفاعل مع بعضها بشكل ديالكتيكي فالتخريصات الفكرية تضفي شرعية على الممارسات العملية و الاخيرة تذكي جذوة التخرصات الفكرية وهكذا دواليك. ولكي تستمرو تكتمل المهمة فقد بدأت ظاهرة تسييس المذاهب من خلال تأسيس الاحزاب الدينية والمليشيات الاذرع العسكرية الرتبطة بها وهي كيانات لايمكن الا ان تكون طائفية. لآن المنطق الذي تسير عليه هذه الاحزاب هو ممناعتها لاي هوية وطنية او قومية اخرى تطغي على الهوية الطائفية.
نظام المحاصصة اصبح دائمأ ومقدسا في النظام السياسي القائم وقد اكد ابراهيم الجعفري هذه الحقيقة عندما قال قبل اسبوعين او ما يزيد بان رئاسة الوزراء هي استحقاقا للآئتلاف الوطني (الشيعي), وقبله اعلن الكورد بان رئاسة الدولة هي من استحقاقهم. الطامة هي ان جميع الاحزاب داخل أتلافاتها تريد محاصصات ليس فقط في الوزارات وانما وكلاء الوزارات والمدراء العامين والسفراء و ما الى ذلك (برنامج حوار عراقي مع رئيس كتلة الاحرار ضياء الاسدي, قناة البغدادية). وفي اليومين الاخيرين اكدت ذلك ايضا كتلة المواطن. و قادة ما يسمى بمعسكر السنة لايقل تمسكا من الاخرين بهذا المسلك الاوطني والمنحرف. وبذا يصبح الحديث عن الكفاءة والمهنية والوطنية في مثل هذه التوجهات الجوفاء مجرد هراء.
الامر الاخطر من كل ماذكر اعلاه هو محاولات رئيس مجلس الوزراء الممنهجة والحثيثة بالدفع وبقوة إلى خلق مصادمات أمنية لزرع الفتنة الطائفية. سياسة فرق تسد الخبيثة مثلآ مارسها من خلآل أرسال قوات عسكرية جلها من الشيعة الى المناطق الغربية وهي سنية! بدون ان يعطي للقوى المحلية سياسية كانت ام اجتماعية بممارسة اي دور في تحقيق الاستقرار. القوات العسكرية و الامنية هذه والتي كانت متواجدة في محافظة نينوى وغيرها من المناطق الغربية اضافة الى محافظة ديالى مارست اعمالا غير متحظرة واحيانا اجرامية. وهذا قد حصل في جميع مناطق العراق لكنها تجاوزت كل الحدود في مناطق الوسط و الشمال الغربي من العراق. فقوات سوات “القذرة” وكثيرا من قطاعات جيش العراق الجديد لازالت مستمرة بقصف الفلوجة بالصواريخ والمدفعية و بالبراميل المتفجرة واستباحة حرمات وحياة الناس الامنين. مما ادى الى اثارة الاشمئزاز لتعاملها غير الانساني والمهين مع المواطنين وكأنها قوات احتلال مما ادى الى زيادة ألاحتقان الطائفي. وعندما تبدأ جثث الجنود القتلى تصل الى مناطقهم في الجنوب تحدث نفس ردود فعل عنيفة ضد السنة وهو امر مفهوم وطبيعي لآن النظام المسخ الحالي مصمم على دق اسفين ليس فقط بين ابناء الشعب الواحد بل ودق اوتاد الفتنة والكراهية بين الشيعة انفسهم كما هو الحال مع السنة.
الاحزاب الطائفية وملشياتها وبالتعاون مع او بانحياز اجهزة الدولة ومؤسساتها الامنية لها بدأت منذ مده طويلة بتنفيذ عمليات لايمكن الا ان تكون ضمن مخطط معين يرمي الى تهجير العراقيين السنة من مناطق اليوسفية والمحمودية والمسيب وجرف الصخر والاسكندرية واللطيفية والمشاهدة وابو غريب صعودا الى الكرمة و الفلوجة وغيرها. ومن جهة ديالى نرى التركيز يتم على السعدية والمقدادية والحويجة والضلوعية وبهرز غيرها بعد ان انتهى وجود السنة في كثير من القرى والنواحي في المناطق المذكورة. المسلسل المذكور يبدأ احيانأ بإلقاء منشورات طائفية تطالب اهالي هذه المناطق وفي بغداد بترك اماكن سكناهم والرحيل عنها. القوات الرسمية تغطي على وتساند اعمال المليشيات الارهابية الكثيرة التي عاثت في الارض الفساد ونشرت الرعب وانتهكت الحرمات وحرقت بيوت الامنين ومزارعهم وبساتينهم ونكلت واعتقلت وقتلت الكثير من المواطنين وبشكل منهجي ومنظم عدا اغراق بعضها وتعطيش البعض الاخر.
الهدف النهائي من كل ذلك هو ضم مناطق ديالى وحزام بغداد وجنوبها وجنوبها الغربي وصولآ الى سامراء الى الدولة الشيعية المزمع تأسيسها وبذلك يتم السيطرة على جميع مصادر الثورة النفطية وافضل الاراضي الزراعية ومفاصل التحكم بمياه دجلة والفرات في وسط العراق. علما ان الكثير من قادة الاحزاب الشيعية و مرجعياتهم الدينية التي لايعنيها وحدة الشعب العراقي ومصالحه من بعيد او قريب يتسترون على هذه النوايا ولم ولن يجاهروا بها ألا بعد تحقيق هذه الاهداف. وهي دولة لايريدها شيعة العراق ومواطنيه الاصلاء وانما هي تراهات من يدعون بانهم حماة المذهب و المنتمين له وهم الدخلاء والاغراب وهم الكاذبون و لو صدقوا.
سقوط محافظة الموصل ومناطق كثيرة اخرى و انهيار المنظومة الامنية بالشكل الذي رايناه لم يكن أذا مفاجئا ولايمكن ولايمكن الشعب العراقي فصله عن السياق المذكور أعلاه دون ان ننسى طبعا العوامل الاقليمية والدولية.
الجرح غائر,غائر والشرخ كبير, كبير, فما ابعد المسافة … وما اصعب الطريق … يا وطننا ياعراق