23 ديسمبر، 2024 6:41 ص

يا لوجع مي من دون رافع

يا لوجع مي من دون رافع

لو أكتفى قارئ كتاب “سيرة الماء والنار” بهذه الفقرة القصيرة منه “حيـن انتهـت مراسيم التشييع وغادر الأهل والأصدقاء فـي ساعة متأخرة من الليلـة الأولى أغلقت الباب لأختلي بواقعي الجديد تحيط بي وحشـة أشبه ببئر عميق مظلم وسؤال عملاق يتحداني: كيف سأكمل الرحلة مـن غيره”، فحسب القارئ أن وجع مي مظفّر قد انهال عليه بفقدان الحبيب، مع ذلك يبقى الحزن المهذب الذي اكتنفها أشبه بخط لوني تركه رافع الناصري على خطوط وجهها.
إلا أنها في هذا الكتاب “أنا ورافع الناصري سيرة الماء والنار” أشبه بشاهدة محايدة على ما جرى لها مع رافع وما جرى في البلاد منذ جريان الدم المسفوح في قصر الرحاب حتى استباحة لصوص الدولة للبلاد بعد احتلالها وتحطيم منزلهم في بغداد وسرقة محتوياته.
كل ما جرى تسرده لنا بعدسة لا تمل من اليوميات، من دون أن يغادر رافع كادرها، أنه حاضر سواء سافرت معه أو لوحدها، ذلك لعمري منتهى الإخلاص. لذلك يبدو الكتاب سيرة إبداعية لمي لكن بمرآة عاكسة بيد الفنان التشكيلي الراحل رافع الناصري.
فمنذ مرضه عندما صرخت بأعلى صوتها “رحمتك إلهي. رافع نعمة الوجود” حتى اللحظة التي كان يواري فيها الجثمان جلست على حافة القبر وبيدها القرآن وكأنه الحل المقدس لما تركه رافع في حياتها.
مي نحبها كشاعرة منذ ديوانها “طائر النار” ونرفض أن تكون بغير قصائدها، عندما نضع نتاجها الآخر-على أهميته- على هامش القصيدة، خذ مثلا ترجمتها الرائعة لـ “حياتي مع بيكاسو” أو دراستها النقدية المهمة “الفن الحديث في العراق: التواصل والتمايز” ثم مجموعتها القصصية “ألم يبق أحد منهم” التي تستعيد فيها بغداد بأنصع وجوهها، لكن، مع ذلك، ستبقى كلمة شاعرة تسبق اسمها!
متعة قراءة هذا الكتاب لا تنتهي، لأنه شاهد بلغة مكتفية بوضوحها على سنين بغداد وطبيعة الأسر التي أسهمت في بناء الدولة العراقية. تمرُ مي على سنوات حياتها حتى تولع بها وتولعت به في مقهى بيروتي.
لحظة الحب بينهما تبدأ من لوحة فيروزية لرافع في مدخل منزل جبرا إبراهيم جبرا، عندما يتحول سؤالها عن صاحب هذه اللوحة، فيرد جبرا بتساؤل مقابل “ألا تعرفيه أنه رافع الناصري”!
ومنذ اللقاء الأول ترك معها شيئا منه، ففي كل البوح والغضب الكامن بينهما في السنين الأولى هناك ما يجعل من الحب الحل النهائي في الحوارات التي استذكرتها على لسان رافع وما جرى بينهما على الهاتف وعندما رآها في قاعدة الخلد، أشبه برسائل اللوعة التي كتبها غسان كنفاني لغادة السمان، لكن عند مي ورافع ثمة عراقية تغادر الزمن إلى أبعد من سبعينيات القرن الماضي حيث أضرمت شرارة الحب الأولى وتكررت اللقاءات.
بدا لي من المفيد هنا أن نستعيد علاقة رفعت الجادرجي وبلقيس شرارة، وكيف انتهت بالزواج، ونحن نتأمل الحب العارم الذي سكن الناصري حيال مي وانتهت بالزواج المخلص أيضا، الحب اتخذ نفس المسار وبقي منعشا عند الأربعة، وإن كان المذاق مختلفا “هناك تشابه عجيب في ليلتي زفاف الجادرجي والناصري وكيف سكنا في ملحقين صغيرين مرتبين على عجل في بيتي والدهما”!
ما كتبته مي في هذا الكتاب محض إخلاص نقي لرافع، فهي لا تريد فيه نبش الماضي بقدر استذكاره مع حبيبها القلق المتوتر الخؤون النزق الحالم المستاء الرقيق الدقيق الملهم. هكذا كتب لها مرة “أنت لا تعرفين أي طفل ضائع أنا”.
لكن دعونا نقرأ ما كتبته له في رسالة احتفظت بها لنفسها! وبعد أشهر من الانقطاع الحائر وشاهدته يترقبها في قاعة الخلد أثناء حفلة للفرقة السمفونية العراقية “فمَنْ من غير طراز مي مظفّر تكتب الرسائل لعاشق يحبها حد الألم، كي تحتفظ بها”؟