في زمن انعدمت فيه روح البساطة وحلت محلها صور الاستعلاء والترفع على الناس .. في زمن انعدمت فيه الاحاسيس الانسانية النبيلة وسيطرت لغة الخوف والشك وعدم الرضا بين الرئيس والمرؤوس .. في زمن لايشبه في تقاليده وقيمه الاجتماعية ذلك الزمن الجميل.. الزمن الذي كان فيه الملك والامير .. الرئيس والوزير .. يعيش حالة التفاعل مع المجتمع المحيط به بكل بساطة وتواضع .. في هذا الزمن الرديء ما احوجنا الى العودة الى روح التآخي والتآلف بين الرئيس والمرؤوس من اجل ان نخفف من قساوة واقع الحياة الاجتماعية التي نعيشها بعد ان انعدمت الرؤى وباتت العلاقات الاجتماعية غامضة يسودها اللون الضبابي
في هذا الزمن ما احوجنا الى استذكار الايام الجميلة يوم كان الرئيس والمرؤوس كتلة واحدة
ما احوجنا اليوم الى استذكار بساطة وطيبة الملوك لتكون دروسا للحكام في كيفية التعامل مع المجتمع المحيط بهم بعفوية وانسانية للمحافظة على القيم النبيلة من الاندثار ولتكون برنامج عمل لعودة الروح للمجتمع يوم كان الملك يتجول بين الناس بعفوية بلا حمايات ولا سيارات مصفحة .. ومن حكايات و روايات ووقائع وحقائق أيام زمان والتي تدلل على روح البساطة ماحدث للملك غازي حسب ماتذكره الروايات حدثت ايام كان مشكور ابو طبيخ مديرا لناحية اللطيفية في عام 1934 اثناء موسم انتشار طير الدراج .. كان جالسا في بيته يشرب الشاي في يوم كثير المطر عندما دخل عليه الخادم وقال ” استاذ اكو واحد عصمانلي بالباب يريد يشوفك”.. قال له المدير ” اسأله ماذا يريد”. خرج الخادم ليسأل ذلك الطارق عن حاجته. ثم عاد الى سيده ليخبره بأنه يريد مساعدته.. وقال ” سيارته غاطسة بالطين. كل هدومه وقندرته مطينة. شلون اجيبه عليك استاذ .. راح أروح اصرفه.” فقال له مشكور ابو طبيخ “لا ابني لا. يمكن هذا بعدين يرجع لبغداد يفضحنا. يمكن يطلع واحد من ابناء الذوات ويسوي لنا قيل وقال.. روح جيبه. خلي يخش. طين مو طين مايخالف “.خرج الخادم وجاء بذلك العصمانلي غارقا بالطين. ما ان رآه مدير الناحية حتى هب اليه ليرحب به ويعتذر منه قائلا ” سيدي ما كنا نعرف. ما ندري انت هنا حتى نقوم بالواجب. قوم أبو حسين. قوم روح جيب ماي وأغسل قندرة صاحب الجلالة”.لم يكن الطارق غير الملك غازي. كان قد خرج لصيد طيور الدراج وحده دون حماية ولا مرافقين ركب سيارته المتواضعة وحمل بندقيته وخرج ..كان النهار لسوء حظه ممطرا حول الآرض إلى بوتقة من الوحل. ما ان توغل بسيارته في الآرض المبتلة وقبل أن يصادف دراجا واحدا او يطلق طلقة واحدة غرست سيارته بالطين .. حاول الملك اخراج السيارة من الوحل ولكنه كلما حاول ازدادت غرسا في الوحل حتى يئس من اخراجها ولم يبق له غير أن يلتمس المساعدة من مدير الناحية.فقال مدير الناحية ” يا اولاد جيبوا ماي وفرشة نظفوا قندرة الملك” . انطلق الخدم والحرس فنزعوا قندرته ينظفونها من الطين ويغسلونها ويمسحونها في حين انهمك آخرون في تنظيف بنطلونه وجواربه بقدر ما يتسع الحال. سمع اثناء ذلك عمال في كراج اللطيفية بما حصل للسيارة الملكية فخف الزلم واهل الحَمولة لرفعها من حفرتها واعادتها الى الطريق العام وينادي بعضه الاخر “دير بالك يا ولد! هذي سيارة الملك غازي لا توسخها ” جاؤوا بالماء سطلا بعد سطل والكل يعتزون ويبتهجون في ان اعطاهم الله هذه الفرصة ليتباركوا بغسل سيارة الملك الشاب.
شكر الملك ضيافة المدير مشكور ابو طبيخ ومساعدة أهل الناحية صافحهم واحدا واحدا وانطلق عائدا الى بيته خائبا في صيده. التفت المدير الى الفراش وقال “ولك يا أبو حسين شلون تقول واحد رجال عصمانلي؟ لك انت ما تعرف الملك “فرد عليه الفراش قائلا ” استاذ والله ما عرفته. ما يفرق بشي عن بقية الناس. حاله حالهم. جاي بطرق الثوب والبنطلون. لوما انت تقول جيبه خليه يخش و الله جان طردته ” لم يكن الملك عند خروجه للصيد محاطا بالحمايات كان وحيدا مطمأنا ان الحامي هو الله جل جلاله .. فيا ايها الملوك والامراء والرؤساء والمسؤولين كونوا بسطاء سمحين في اعمالكم .. فليس الصلف ولا القسوة ولا التعالي على المواطنين من دلائل النجاح وعلو الهمة .. فاعظم الناس وانجح الناس هم اكثرهم بساطة وليونة ورحمة .. وليكن قدوتكم من سبقكم من الملوك والامراء والرؤساء