23 ديسمبر، 2024 4:14 م

ياسين مجيد : قل خيرا او اسكت

ياسين مجيد : قل خيرا او اسكت

يذهب بعض الكتبة الذين قيضت لهم الصدفة المحضة موقعا سياسيا او اعلاميا الى الافتئات وسيلة لتمرير الخطاب غير المنزه عن الاغراض والضغائن، ويميل هذا البعض الى الجعجعة والصوت العالي والنبر العنيف ظانا ان ذلك سيوفر له مع التقادم الزمني مساحة اصغاء واسعة عند الناس.
ولان الصدف السيئة لا تقذف الى الشواطئ الا غث البحر فان استمراء مثل هذا البعض لنهجه في سوء الاستقراء وعقم الرؤية ويباس التحليل لا يسبب التباسا عند المتلقين بل قد يسبب ماهو اشد سوءا من الالتباس وهو تضليل الناس عن رؤية الحقائق وتلمسها وربط نتائج الوقائع باسبابها والعلة بمعلولها، ومن شأن هذا التضليل ان يحدث عماء مبرما، قد يكون من نتائجه احتقان طائش اوهيجان جاهل.
وينسى هذا البعض ، ان كان يعرف،  ان السياسة ليست فن الانشاء وسبك الجمل، وليست ايضا هجاء ومديحا، وليست ضربا من التحريض او نوعا من الحماسة، انما هي فن الاستقراء وربط الظواهر واستنباط الممكن من الحلول المثلى التي يوفرها المنطق.
ويهدف علم المنطق كما هو معروف إلى دراسة صحة الاستدلال، فانه أداتنا لمعرفة إذا ما كان الاستنتاج استنتاجاً صحيحاً أو خاطئاً، وقد وصفه القدماء بأنه: «آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ»، ويتكئ بصورة أساس على مبدأ عدم التناقض.
كما ان من المسلم به إن النتيجة اليقينية للاستقراء لا يمكن أن تبرر إلا اذا افترضنا تماثل الطبيعة، بمعنى أن الأشياء التي حدثت في الماضي المشاهد ستظل تحدث في المستقبل، لكن ما من طريقة منطقية يمكن بها اثبات تماثل الطبيعة الا من خلال الاستقراء، وهذا يدخلنا في حلقة مفرغة، فنحن نكاد نثق ثقة عمياء بأن الشمس ستشرق غداً، وعند طرح السؤال التالي: ما هو الدليل على أن الشمس ستشرق غداً بالفعل؟ يأتي الجواب: لأنها أشرقت بالأمس وقبل الأمس وكل يوم خلال الألف سنة الماضية دون استثناء، إنها إجابة مبنية على تجاربَ سابقة لكن السؤال ما هو البرهان على أن المستقبل سيكون كالماضي، أو أن الماضي البعيد الذي لم نختبره متطابق مع الماضي القريب الذي عرفناه.
يحتج البعض بأنهم قد جربوا الاستقراء وأثبت نجاحه مراتٍ ومرات، وأن الماضي كان مستقبلاً قبل أن يكون ماضياً، ورغم أن هذه الحجة هي حجة استقرائية فانها تحاول اثبات الاستقراء بالاستقراء.
سقت هذه المقدمة بعد ان وقفت مليا ازاء مقال كتبه ياسين مجيد رئيس تحرير جريدة البيان البغدادية تحت عنوان ( المتنازع عليها: الساكتون والمحايدون)  رش فيه بعض الساسة العراقيين بنعوت ماكان لحيي ان يلجأ اليها في اية صيغة من صيغ الحوار الديمقراطي الرصين العقلاني الهادئ.
فقد اتهم بعض الساسة بالمخطئين (يرتكب خطأ فادحاً من يتوهم أن أزمة المناطق المتنازع عليها ، هي أزمة بين الحكومة الإتحادية وإقليم كردستان أو أنها بين المالكي وبارزاني) وغير مدركين او ذوي حسابات (والذين يروجون لمقولة إن الأزمة هي بين بغداد واربيل ، أما أن يكونوا غير مدركين لخطورتها التي تخفي وراءها مشاريع قديمة – جديدة ، أو أن الحسابات السياسية والفئوية الضيقة تقف حائلا دون معرفتهم لحقيقة ما يجري على الأرض) ومبتزين (والأكثر غرابة من ذلك إن هؤلاء يعملون على إثارة قضية سحب الثقة عن المالكي في محاولة لإبتزاز بغداد لحساب اربيل مع إنهم يدركون جيدا إنهم أضعف من أن يقدروا على سحب الثقة).
واعتمادا على المنطق وبغية الاستدلال على اليقين استقرائيا سنتوقف عند المفردات السياسية التالية التي انطوى عليها المقال.
1.  المناطق المتنازع عليها.
2.  المادة 140 الدستورية الميتة.
3.  الشركاء
4.  الازمة والخروقات الكردية
تؤكد لنا وقائع كتابة الدستور بالامس القريب ان السيد نوري المالكي كان احد نحاتي مصطلح (المناطق المتنازع عليها) ان لم يكن اشد النحاتين اصرارا عليه، وهو ناتج ما اسماه بالتحالف الشيعي الكردي، واذا كان هدف الكرد من هذا المصطلح تحقيق تمدد اوسع يتجاوز حدود المحافظات الثلاث، فان هدفه عند حزب الدعوة الاسلامية وحلفائه اعادة الحاق مناطق ربطها النظام السابق بمحافظات معينة، وهذه السابقة الخطيرة لم تكن للشركاء الذين وصمهم الكاتب بما وصم يد في نحتها او تصميمها او الموافقة عليها، بل اعتبر رأيهم المضاد لها بمثابة وضع العصي في عجلة العملية السياسية.
اذن فواضع الشيء لا مندوحة له عن المسؤولية عنه، وانه وحده، مع من أزره يتحمل مسؤولية ما اقترف، واذا كانت المسؤولية تستدعي المواجهة الحقة مع النفس او مع الناس، فان على السيد المالكي، اذا كان قد بان له بعد تسلم عتبة المسؤولية التنفيذية، خطل هذا المصطلح والنص الدستوري وخطورته على مستقبل وحدة العراق ارضا وشعبا، ان يعترف امام الشعب بخطأه، ويطلب الصفح ويدعو الى التصحيح، فهل يجرؤ السيد المالكي على ذلك؟ ام انه سيجد نفسه اسير زمن نحت المصطلح وكتابة الدستور؟؟
والامر ذاته يصح على المادة (140) الدستورية، فالذاكرة الجمعية العراقية مازالت ترى من الذي كان وراء تثبيتها ومن كان ضدها، وهنا يعن لنا ان نتساءل: كيف يمكن ان يفسر السيد المالكي اصراره طيلة سنوات تسنمه رئاسة الوزراء تخصيص ميزانية سنوية لتنفيذ هذه المادة مع انها سقطت دستوريا لان الدستور حدد زمنا مبرما لتنفيذها وعند انتهاء هذا الزمن عدت مادة منتهية الصلاحية دستوريا؟
هل يمكن للسيد مجيد ان يجد لنا تسويغا لهذا المنطق المقلوب المتناقض؟
لا نظن.
ولانه لايربط الظاهرة ـ الازمة باسبابها فقد حجبت باصرته المتحزبة عنه رؤية الحقيقة، ومن هذه الحقيقة وليس كلها، ان السيد المالكي درج طيلة سنوات حكمه على صناعة الازمات، فما ان يصنع ازمة حتى يعالجها بصناعة ازمة اخرى تزيح سابقتها من مركز الاهتمام الشعبي والسياسي ثم تهملها على نار كامدة، وان الشركاء نأوا عن صناعة الازمات واقتربوا كثيرا من حلولها، ولان المسؤولية في المقام الاول تقتضي الحفاظ على مسار العملية السياسية من الانزلاق الى الهاوية فان بحثهم عن حل لازمة (المالكي / البارزاني) او(بغداد / اربيل) او (المركز / الاقليم) او اية توصيفات اخرى ، يندرج تحت عنوان الوصول الى حل توافقي، والتوافق كما هو معروف، من اجتراح نحاتي الدستور، ومنهم السيد المالكي، الذي كان تبوؤه رئاسة الوزراء نتاجا توافقيا نتج عن اتفاق اربيل الملغى من طرف المالكي وحده، ولم يكن نتاجا انتخابيا. افيعد التوافق منهجا مقبولا عندما يتعلق بالامساك بكرسي السلطة ولا يعد مقبولا لدرء عواقب وخيمة يمكن ان تنتج في اية لحظة عن احتكاك بين القوات الاتحادية والبيشمركة؟؟
اما عن ما وصفه الكاتب بالتجاوزات الكردية فاننا نذكره بان كل السنوات الماضيات قد شهدت تجاوزات كثيرة وكبيرة وقد نبه الشركاء السيد المالكي اليها لكنه تغاضى عنها متحججا بالتحالف الكردي الشيعي؟؟ فهل للكاتب ان يفسر لنا سر سكوت المالكي عن تلك التجاوزات ورفضه السكوت عنها الان او مطالبة من اسماهم بالساكتين باعلاء الصوت؟؟ اذا كانت بغية المالكي هو اشهار الشركاء رفضهم للخروقات الكردية وهو امر مشهور ومعروف فان الاحرى بالمالكي ايضا ان يعتذر للشعب او يعتذر للشركاء في اقل تقدير عن سوء تقديره لمخاطر تلك الخروقات؟ ام ان المنطق عند الكاتب مجيد لا يستقيم مع هذا؟؟
وختاما يذكرنا اتهام مجيد للشركاء بالضلوع في مخططات اقليمية بمنطق النظام السابق واساليبه في قمع مناهضيه، فنأنف عن الرد عليه.
واخير وليس اخرا نقول للسيد ياسين مجيد: قل خيرا او اسكت.