في كل بقاع العالم، تُعد السلامة المدنية ركيزة أساسية لحماية المجتمعات من ويلات الكوارث، سواء كانت طبيعية أو بشرية. وبينما ترسم الدول المتقدمة لوحة متكاملة من الجاهزية والابتكار في هذا المجال، يواجه العراق تحديات فريدة، تُلقي بظلالها على قدرته على تحقيق المعايير العالمية. إن فاجعة حريق ( مول الكوت ) في محافظة واسط، التي حصدت أرواحًا وتسببت في خسائر فادحة، لا تُعد مجرد حادث عابر، بل هي مرآة تعكس الفجوة الكبيرة بين تطلعات السلامة المدنية في العراق وواقعها المؤلم، لتكون بمثابة دعوة صريحة لإعادة تقييم شاملة وخطوات إصلاحية جذرية.
في الدول المتقدمة، يُعد الإطار القانوني والمؤسسي لقطاع السلامة المدنية صلبًا ومترابطًا. تُسن قوانين ولوائح صارمة تحدد بوضوح صلاحيات ومسؤوليات جميع الجهات المعنية، من الحكومات المركزية إلى السلطات المحلية والقطاع الخاص وحتى الأفراد. تتوافر هيئات متخصصة ذات هياكل تنظيمية فعالة وتنسيق عالٍ بين مختلف الأجهزة (الشرطة، الإسعاف، المطافئ، الجيش، منظمات المجتمع المدني)، مما يضمن استجابة موحدة وفعالة للأزمات. على النقيض، يواجه العراق تحديات في هذا الجانب. فمديرية الدفاع المدني، التابعة لوزارة الداخلية، تبذل جهودًا مضنية، لكنها تعمل ضمن إطار قانوني قد يحتاج إلى تحديث شامل لمواكبة التحديات الحديثة وأفضل الممارسات الدولية. كما أن التنسيق بين الأجهزة المختلفة، على الرغم من التحسن الملحوظ في بعض المجالات، لا يزال يفتقر إلى الانسجام المطلوب في أوقات الكوارث الكبرى. يظل دور القطاع الخاص والمجتمع المدني في دعم هذه الجهود محدودًا، مما يضع عبئًا كبيرًا على عاتق الجهاز الحكومي. يُضاف إلى ذلك ضعف الرقابة الحكومية في تطبيق قوانين ومعايير السلامة، وهو ما تجلى بوضوح في فاجعة واسط؛ فالتقارير الأولية ألمحت إلى أن المول كان يعمل بدون تراخيص كاملة أو موافقات رسمية، وأن صاحب المشروع ربما تجاهل متطلبات السلامة الأساسية، بما في ذلك مخارج الطوارئ وأنظمة إخماد الحريق. هذا يشير بوضوح إلى أن آليات التفتيش والمتابعة من قبل الجهات الحكومية المعنية لم تكن فعالة بما يكفي لمنع كارثة كهذه من الحدوث.
تتبنى الدول المتقدمة نهجًا شاملاً لإدارة الطوارئ يتكون من أربع مراحل متكاملة: التخفيف، الاستعداد، الاستجابة، والتعافي. يُركز على التخفيف من المخاطر عبر التخطيط الحضري المقاوم للكوارث، وتحديث قوانين البناء، وإدارة المخاطر. أما الاستعداد، فيشمل أنظمة الإنذار المبكر، والتدريبات الدورية، وتخزين الإمدادات، وحملات التوعية العامة. في مرحلة الاستجابة، تتميز هذه الدول بفرق إنقاذ مدربة ومجهزة، ومراكز عمليات طوارئ متطورة، وخطط إخلاء وإيواء محكمة. وأخيرًا، تُركز مرحلة التعافي على إعادة الإعمار، والدعم النفسي، واستخلاص الدروس المستفادة. في العراق، يميل التركيز بشكل كبير نحو مرحلة الاستجابة للكارثة (إطفاء الحرائق، عمليات الإنقاذ المباشرة)، وهو أمر حيوي بلا شك. ومع ذلك، لا تزال مراحل التخفيف والاستعداد بحاجة إلى اهتمام أكبر. فتطبيق معايير البناء الصارمة، ووضع خطط إخلاء تفصيلية على مستوى المدن، وتطوير أنظمة إنذار مبكر فعالة وشاملة، لا تزال تمثل تحديات كبيرة. فاجعة واسط خير دليل على ذلك؛ فلو كانت هناك خطط واضحة للتخفيف من المخاطر (مثل استخدام مواد بناء غير قابلة للاشتعال، وتصميم المبنى بمخارج طوارئ كافية وواضحة)، ولو كان هناك استعداد كافٍ (مثل أنظمة إنذار مبكر فعالة وتدريبات على الإخلاء)، لكانت الخسائر أقل بكثير. هذه الفاجعة أظهرت أن الاستجابة جاءت متأخرة وأن قدرة الدفاع المدني على التعامل مع هذا الحجم من الحريق كانت محدودة بسبب نقص المعدات الحديثة والمتخصصة لمثل هذه الأبنية الشاهقة والمزدحمة.
تعتمد الدول المتقدمة بشكل كبير على التكنولوجيا والابتكار في جميع جوانب السلامة المدنية. تُستخدم أنظمة المراقبة المتقدمة، وشبكات الاتصال المرنة، وأنظمة المعلومات الجغرافية لتحليل البيانات وتقييم الأضرار، بالإضافة إلى الطائرات بدون طيار (الدرونز) لتقديم المساعدة. يساهم البحث والتطوير المستمر في إنتاج معدات إنقاذ وإغاثة متطورة. في المقابل، يعاني العراق من فجوة تكنولوجية واضحة. على الرغم من وجود بعض المبادرات لتبني تقنيات حديثة مثل الكاميرات الحرارية، إلا أن النقص في التمويل يحد من القدرة على تحديث المعدات والبنية التحتية التكنولوجية بالسرعة المطلوبة. العديد من المعدات لا تزال قديمة أو غير كافية لمواجهة التحديات المتزايدة، مما يؤثر على كفاءة الاستجابة. في حادثة واسط، على الرغم من الجهود البطولية لفرق الدفاع المدني، تشير التقارير إلى أنهم واجهوا صعوبة في التعامل مع الحريق بسبب افتقارهم إلى المعدات اللازمة لإنقاذ المحاصرين في الطوابق العليا أو للسيطرة السريعة على النيران التي انتشرت بسرعة مذهلة، وهو ما يؤكد هذه الفجوة.
بصفتها دولة تعيش في منطقة متقلبة وتواجه تحديات بيئية متزايدة مثل التصحر والفيضانات، يواجه الدفاع المدني العراقي تحديات فريدة. نقص التمويل، تآكل المعدات، وحاجة الكوادر إلى تدريب مستمر ومتخصص، كلها عوامل تعيق التطور. كما أن آثار الصراعات، من الألغام إلى المتفجرات غير المنفجرة، تضع عبئًا إضافيًا على عاتق هذا الجهاز الحيوي. يُضاف إلى ذلك ما ذُكر آنفًا من ضعف الرقابة الحكومية في تطبيق معايير السلامة، الأمر الذي يؤثر سلبًا على البنية التحتية ويجعلها أكثر عرضة للحوادث، وفاجعة واسط نموذج حي لذلك. المطالبات بإقالة المسؤولين وتوقيف بعض الضباط بعد الفاجعة تشير إلى وجود خلل في سلسلة القيادة والمساءلة، وهو ما يختلف عن الدول المتقدمة التي تكون فيها المسؤوليات محددة بدقة وآليات المساءلة واضحة. ومع ذلك، تكمن الفرص في الإرادة السياسية المتزايدة لتعزيز القدرات، والدعم الدولي الذي يتلقاه العراق في تدريب الكوادر وتجهيزها، بالإضافة إلى الوعي المجتمعي المتنامي بأهمية السلامة. لكي يضاهي العراق مستوى الدول المتقدمة، يتطلب الأمر: زيادة الاستثمار وتخصيص ميزانيات كافية لتحديث شامل للمعدات والبنية التحتية، وتطوير الإطار القانوني ليكون أكثر شمولية ومرونة، وبناء القدرات البشرية من خلال برامج تدريب مكثفة ومستمرة للكوادر في جميع مجالات إدارة الطوارئ، وتفعيل الرقابة الحكومية لضمان تطبيق معايير السلامة بصرامة، وتحويل التركيز من الاستجابة فقط إلى الوقاية والتخفيف والاستعداد، وتبني التكنولوجيا والاستفادة القصوى من أحدث التقنيات لتعزيز الكفاءة، وتعزيز الشراكة المجتمعية وتفعيل دور القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في جهود السلامة، وأخيرًا، التعاون الدولي للاستفادة من الخبرات والتجارب العالمية في مجال إدارة الكوارث. إن بناء نظام سلامة مدنية قوي ومرن في العراق ليس ترفًا، بل ضرورة حتمية لحماية أمن المواطنين ومستقبل البلاد. فاجعة واسط ليست سوى تذكير مؤلم بأن التقاعس عن معالجة هذه التحديات له ثمن باهظ يدفع بالأرواح والممتلكات. وبينما تبدو الفجوة كبيرة، فإن الإصرار على التغيير والتعاون المشترك يمكن أن يحول التحديات إلى فرص لبناء مستقبل أكثر أمانًا للعراق.