إمتطيت صهوة قلمي مجددا بعد أن فرغت من ملف النازحين وعددهم يربو على 3 ملايين نازح يعيشون ظروفا غاية في القسوة ، جوع وعطش ومرض وخوف وترقب ، مرورا بملف العاطلين ومحاولة العشرات منهم الإنتحار وآخرهم مهندس انقذ في اللحظات الأخيرة قبل إلقاء نفسه من جسر الجادرية وسط بغداد بسبب الديون التي تحاصره من كل مكان ، وأنا أسابق الريح لإماطة اللثام عن فاجعة مستشفى الطفل والولادة في ميسان التي إحترقت ولما تباشر عملها الفعلي بعد منذ افتتاحها رسميا في حزيران الماضي ، اطاردها قبل دفنها كسابقاتها بـعبارة ” فتح ملف تحقيق بالحادث” والتي تقرأ بالمعكوس محليا ، اذ ان الفتح العراقي يعني وبمنتهى الوقاحة ، الإغلاق النهائي حتى إشعار آخر ، لابد من مسابقة الزمن لسبر أغوار حقيقة احتراق المستشفى بخسائر اجمالية بلغت مليار و500 مليون دينار واتلاف 100جهاز ياباني الصنع مخصص لتخطيط ومراقبة القلب تبين انها قد استبدلت بالكامل قبيل الحادث المفتعل بأخرى مستهلكة بحسب الكشف الموقعي وتصريحات تناقلتها وسائل الإعلام لعضو في مجلس المحافظة رفض الكشف عن اسمه ، لأنك ( عندما تموت عطشاً، فإن الوقت يكون قد فات لحفر بئر) كما تقول الحكمة اليابانية .
وبينما كنت أقفز كـ – قرد أدغال – من تغطية كارثة لأخرى اتصل بي الزميل العزيز ، ليث مشتاق ، وكان صوته محبوسا بين ثنايا كلماته ، تخنقه العبرة متسائلا ” هل تعرف ناهيكو؟” قلت ومن عساها تكون ؟قال انها مواطنة من بلاد الشمس ، نذرت نفسها لإغاثة العراقيين من دون كلل ولاملل ، منذ عام ٢٠٠٤ وهي تعمل على نقل المساعدات الإنسانية والاغاثية التي يتبرع بها يابانيون الى المناطق العراقية المنكوبة ، ناهيكو كانت في الفلوجة قبل اسابيع وعملت في الموصل الى قبيل سقوطها في حزيران 2014 وهي تعمل حاليا على إغاثة نازحي المدينة المنكوبة الفارين من أتون المعارك الطاحنة هناك ، تساعد في إجراء عمليات جراحية لإطفال عراقيين يعانون من امراض شتى يصعب علاجها محليا على يد اطباء يابانيين متطوعين لإجراء عمليات في الاردن والعراق ، ناهيكو التي تعمل لحساب منظمة ” IHO-net ” قررت إلغاء احتفالها بأعياد الميلاد في طوكيو هذا العام لأنها تريد قضاء العيد ها هنا لإغاثة النازحين العراقيين قبل حلول الشتاء القارس ، قالتها وهي تبكي ..فأبكتنا “.
ترجلت كفارس مهزوم كسر سيفه وعقر جواده ، ألقيت نظارتي ، رفيقة دربي بيدين مرتجفتين على بقايا طاولة مليئة بأعقاب السجائر – المضروبة – وعلب المشروبات الغازية – الملوثة – أمامي ، أتبعتها بقلمي – الهندي – مثلثا بأوراقي – الصينية – وانا أحاور ذاتي العراقية الوحيدة في الغرفة ذات الضياء الخافت وكل شيء من حولي باستثناء أشلاء الضحايا الذين يموتون في كل مكان تباعا وينحرون على مذبح الطائفية والأثنية أجنبي مستورد وبالعملة الصعبة ، بل قل أجلدها في ديالوج داخلي مؤرق ومتسلسل كدوامة لانهاية لها ” مواطنة يابانية من اقاصي الأرض تذرع العراق ذهابا وايابا لإغاثة النازحين واطعام الجياع والمحرومين وعلاج المرضى ، الأطفال منهم والمسنين ، يقابلها عراقيون يغشون ويقتلون ويحرقون ويفجرون ويسرقون محالنا ومدارسنا وجامعاتنا واسواقنا ومستشفياتنا في حوادث تقيد كما في كل مرة ضد مجهول – معلوم – لم يكن حريق حاضنات الأطفال الخدج في مستشفى اليرموك الذي اسفر عن مصرع 13 رضيعا وإختفاء آخرين ، مرورا بحريق ارشيف مستشفى العلوية للولادة ربما – وهذا ما أرجحه – لإستبدال أطفال بآخرين او خطفهم كما كشف عن ذلك بعض الأطباء والممرضين ، وصولا الى حريق مستشفى ميسان للولادة لسرقة 100جهاز ياباني حديث الصنع واستبدالها بأخرى عاطلة ، مختبرات تحليلات مرضية تستخدم مواد تالفة، مجاهر مستهلكة ، تيوبات معادة ، كتات مجهولة المنشأ ، صيدليات ومذاخر تبيع ادوية مستوردة غير خاضعة للتقييس والسيطرة النوعية ، وأخرى منتهية الصلاحية بعد تزوير تأريخ الصنع والنفاد ، وثالثة مصنعة محليا تباع بعلب مقلدة لماركات عالمية في منطقة البتاويين ، أطباء جشعون لاهم لهم سوى جني الأرباح ، بعضهم لا يتورع عن إجراء عمليات جراحية لمرضى ليسوا بحاجة الى إجرائها ، ومنهم من يشترط على مرضاه مراجعة مختبرات او صيدليات بعينها بعد الاتفاق مع اصحابها مسبقا لتقاسم الأرباح ، موظفون صحيون يعملون على تسريب الأدوية من مخازن المستشفيات الحكومية الى الأسواق السوداء ليشتريها الضحايا بأضعاف اسعارها والا فالموت مصيرهم ، شباب يبيعون كلاهم الى تجار الأعضاء البشرية بثمن بخس ليعيشوا بثمنها ماتبقى من حياتهم العبثية في بلاد مابين الصنمين .
توقفت هنيهة وأطرقت رأسي مليا وانا اقلب الطرف بمثل ياباني اظنه يلخص المشهد العراقي الشائك ” من سرق ذهباً أودع سجناً ومن سرق بلداً بويع ملكاً” ، مستدركا بتجربة اليابان التي خسرت في الحرب العالمية الثانية مليوني قتيل واستهدفت بقنبلتين ذريتين في هيروشيما وناجازاكي الا انها سرعان ما نهضت من كبوتها كطائر الفينيق من تحت الرماد وأصبحت واحدة من أقوى الدول في العالم بلا منازع بروح الـ “ساموراي” او الذي يضع نفسه في الخدمة ، فهل ستنهض ” ميزوبوتاميا ، بلاد ما بين النهرين يوما وتتعافى كبلاد الشمس ؟ أم أنها ستظل تسير بخطى متسارعة نحو الهاوية يقودها في السر والعلن من لا يرقب فيها ولا بشعبها إلا ولا ذمة لتختفي من الخارطة البشرية كما إختفت بالأمس نمرود ؟!
ناهيكو ..مدي يديك تجاه الشمس سيدتي ، دعي ظلالها ترسم على جدار الضمير الميت لوحة انسانية ، اسمحي لي – وان لم افعلها سابقا – بتقبيلها ، كيف لا ويد تحنو على اطفال بلادي ، تطعم جياع بلادي ، تسقي ظمآى بلادي، تعالج مرضى بلادي ، تأوي مشردي بلادي حرية بتقبيل وتقليد واستنساخ ظلالها ،نااااااااااهيكو !. اودعناكم اغاتي