18 ديسمبر، 2024 8:39 م

في خَضِّم هذه المرحلة العصيبة 2020م التي أعقبت تداعياتٍ كثيرةٍ شهدها العراق عامَّة والمنطقة الشمالية والغربية بشكلٍ إستثنائي ، دعونا ُنُلقي خَلْفَ ظهورنا آهاتِ ومُعاناةِ وتَبِعات السنين العِجاف وما تجرعناه من أسىً حيث تَجَرَّعنا مرارة وأسى فَقْدِ أحبتنا ثُمَّ كابدنا ذُل التهجير والإبعاد القسري عن الأهل والديار الذي طالنا جميعاً نحنُ أبناء شِمال وغَرب العِراق لاسيما أخوتنا في الوطن وأهلنا مِن الطائفة اليزيدية الذّين لاكتهُم أنيابُ الغَدْرِ وطحنتهم رحى الموتِ طحناً ويكأني بهم قد قامت قيامتهم فأضحوا ما بين قتيلٍ وشَريدٍ طريدٍ ؛ وسعيدُ الحظ مَنْ فَرَّ إلى أعالي الجِبال بعد أن هاله رؤية مصارع أهله وأحبابهِ وهم يُنحَرون نحر الأضاحي والأكباش …
نَعم والله هكذا كانت المأساة وأكثر … ولنا أن نتصور كيف هو الحال مع مَنْ خَسر الأهل والديار وكل شيء … لكنْ هل هُناك ثِمةُ أمل ؟ وهل هناك إشراقةٌ تُبدِدُ دياجير العُتمة ؟ لتكون كما النور الذي يلوح في نهاية النفق … ؟

شاء الله سبحانه وتعالى أن تتحول المِحن إلى مِنَحْ وتكونُ تلك الإشراقة هو الوطن حيث كانَ قاسِماً مشتركاً في حديث بَعضِ الناجين مِنْ شبابِ وشابات اليزيدية ، عِشقُ الوطن دغدغ آمال الشباب وألهمهم العزم على الصمود وعدم الإنكسار ، ليداعبَ الحُبُ شِغافَ قلبين عاشِقَينِ كأنهما بُرعُمين غَضَّين طَرِيَين في مقتبلِ العُمر جَمَعهما عِشْق الوطن رغم قَسوته عليهما إنهما الشاب اليزيدي فيصل عباس عبدالله والشابة اليزيدية هجمة خضر محمود ليتكلل الأمر بِزواجهما ويمتخض هذا الزواج الميمون عن ولادة طفل أسمياه (وَطَن) للهِ دَرهُ مِنْ وطنٍ ذاك الذي لم ولن نَسمَحَ له أن يأفل ما دام فينا شَهْقَةٌ مِن أنفاسِنا وعِرقٌ ينبض في شرايننا .

أحبتي ها نحنُ نَزِّفُ البِشارة بولادة وَطنْ لتتجسدُ أمام نواظرنا حقيقة القولِ المأثور ” مِن رَحمِ المعاناةِ يولدُ الأمل ” نَعم والله فَمِن دياجير العُتمة يَنبَثِق النور ؛ مُبارك لكما أولادي الأحبة فيصل وهجمة هذه الفرحة وهذا الوطن فَلْتَقَرَ الأعينُ به وليكن شاهداً على قصة حُبٍ إنبثقت في أحلك الظروف كما العنقاءُ تنبعثُ مِنْ تحت الرماد …
أحبتي : ألهموا أولادكم حُبُ الوطن وعَلِّموهم أنَّ الوَطَنْ مفردةٌ تداعبُ شغاف القلب وتتربع على عرشه ، الوطن ترنيمةٌ غائرةٌ وموغلةٌ في القِدَم ، لعلها وعبق التأريخ توأمين مترادفين متلازمين ، وفي محاولةٍ منا لسبر أغوار الوطن وعشق الإنسان السرمدي له ذلك العشق المضّمخ والمُعَبقِ والمعتق والمطرز بدماء الأحبة الذين فاضت مهجهم فداءاً للوطن نستذكر موقف رسول الله ” صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم” حينما إضطره قومه على فراق وطنه المبارك ” مَكّةْ ” غادرها مُرْغَمَاً ولكنه ودعها بكلماتٍ خالدة على مر العصور والأزمان عندما أستقبلها بوجههِ الشريف وبقلبه المُتيم بحب الأهل والوطن قائلاً :
(ما أطيبَك من بلدٍ! وما أحبَّك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك ، ما سكنتُ غيرَك)

كلمات قالها الحبيب ” صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ” وهو يودِّع وطنه ، تكشف عن حبٍّ عميق وتعلُّق كبير بالوطن ، بمكة المكرمة ، بحلِّها وحَرَمها ، بجبالها ووديانها ، برملها وصخورها ، بمائها وهوائها ، هواؤها عليل ولو كان محمَّلًا بالغبار، وماؤها زلال ولو خالتطه الأكدار، وتربتُها دواء ولو كانت قفارًا ، ياله من موقفٍ ويالها من كلماتٍ أنعم بِه من عشقٍ وهيام ، وهذا يقودنا إلى وقفة إجلالٍ وإكبارٍ لشهداء العراق على طول المتى وقد جسدوا بعظيم تضحياتهم المعنى الحقيقي لعشق الوطن ، ونحن على يقين سيأتي اليوم الذي نكتب فيه لافتةً على حدود العراق مكتوب فيها ( إخلع نَعليك إنها أرض العراق الطاهرة المقدسة)
لقد ثبت أن النبي ” صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ” كان يقول في الرقية :
(باسم الله ، تُرْبَةُ أَرْضِنا ، ورِيقَةُ بَعْضِنا ، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا)
والشفاء في شم المحبوب ، ومن ألوان الدواء لقاءُ المحبِّ محبوبَه أو أثرًا من آثاره ؛ ألم يُشفَ يعقوبُ ويعود إليه بصره عندما ألقَوْا عليه قميصَ يوسفَ؟
البشر يألَفُون أرضَهم على ما بها ، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه ، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه ، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص ، لعل المحن التي تعصف اليوم بنا نحن أهل العراق وعظيم التضحيات جسدت حقيقية القول المأثور ” الديرة والدة أي أن الوطن بمثابة الأم الرؤوم”
قَطعتُ وعداً لـــ( فيصل وهجمة والدي وطن) بعد أن أوضحتُ لهما أنَّ ما جرى لأهلنا اليزيديين هو ضريبةٌ ندفعها لتأريخٍ موغِلٍ في القِدم وتأريخِ حديثٍ بالأمس دارت رُحى أحداثه وإنتقاماً لوعيدٍ إلهي لأحداثٍ ستقعُ في قابل الأيام بإذن الله … وقد وعدتهُ بنشرِ كلماتٍ كُنت قد كتبتها قبل أكثرِ من عَشرِ سنينٍ خلت بعنوان ” المرءُ سفيرٌ لأهلهِ.. ومرآةٌ تعكِسُ بيئتهُ..” عن موقفٍ مع أحد أصدقائنا من شِيّاب أهلنا اليزيديين أعيد نشرها وفاءاً لوعدي الذي قطعته :
دأب والدي “يرحمه الله” ومنذ نعومة أظفارنا أن يصطحبنا في مجالسه ، رغم إمتعاضنا من الإصغاء إلى أحاديث الكهول وحرماننا من اللعب مع الصِّبية الذين في أعمارنا ، وفي أحد الأيام قرر الذهاب إلى قرية الشيخ حمصي التابعة لناحية زمار الواقعة شِمال غرب محافظة نينوى ؛ لتلبية دعوة وُجِّهت إليه ، وكنت آنذاك بعمر14سَنَة ، وما أن حلَّ الظلام وغصَّ المضيف بالوافدين ، أثار انتباهي كلامُ أحد المُتَصَدِّين للحديث وهو وَرَّازٌ مِن أهلنا اليزيديين وذلك واضحٌ من هيئته بشاربيه الأبيضين الكثَّين وملابسه المُميزة ، ومفردة وَرَّاز تعني من يأخذ الأرض ويزرعها مقابل أن يكون الحاصل مناصفةً مع صاحب الأرض ، تحدثَ عن موقفٍ لا زالت كلماته تَرِنُ في أذني حينما ذكر روايةً مفادها :
أن أحد الشيوخ سمع صهيل فرسٍ قرب أطناب خيمة الضيوف ، فشحب لون وجهه وكأن الطير على رأسه، ثم توجه على الفور مُرَحِّبًا بالزائر وهو يردد :
أهلاً بملك الموت ، أهلاً ملك الموت فأمر بإيقاد النيران تحت القدور ونَحَر جزورًا لهذا الوافد الغريب.

وفي اليوم الثاني بدأ الشيخ يحاور ضيفه مُتَوَدِّدًا بعد أن عادت الإشراقة إلى محياه، ولطالما كان يكثر بين ثنايا كلامه بالترحاب بهذا الزائر، ولكن الغريب في الأمر أنه كان يكني الضيف قائلاً: حيا الله جبريل. وما أن انتهى اليوم الثالث وقرر الضيف الرحيل، حتى بادر الشيخ بمرافقة ضيفه ممسكًا بخطام فرسه وهو يودعه قائلاً:
في أمان الله أيها الشاعر.. في أمان الله أيها الشاعِر ..دون حتى أن يسأل عن إسم الضيف! وكل أهل الحي مندهش! بالأمس الأول ناداه ملك الموت، والبارحة جبريل، والآن الشاعر، وهنا سألوا الشيخ عن كل ما دار في خَلَدهم؛ ليجيب:
إن صاحب الدار أو البلد المُقيم (المَعزب) في إمتحانٍ إزاء ضيوفه . وكما هو معلوم ، فالضيف والدخيل بلاء لابُدَّ من القيام بواجبهم ، وإن تَطَلَّب الأمر الموت دونهم ؛ لذا كنيته بملك الموت ، ومما لا يخفى عليكم أن الضيوف هم رسُل الله يسوقهم إلى مضيفيهم، فَكَنَيْتُهُ بجبريل، ولحظة توديعه كنيته بالشاعر؛ كونه سيذيع بين القبائل ما رآه وعايشه خلال فترة إقامته، وما ينقله عنا هو إنعكاسٌ لأخلاقه: (والمرء مرهون بحليبه وأخلاقه وتربية عائلته ومجتمعه).
ولطالما كان يشدد الوالد “يرحمه الله” علينا ومنذ الطفولة أن لا ننقل عن مشاهداتنا إلا ما يتشرف السامع به وتسمو فيه الأخلاق وترتفع وتشمخ فيه الرؤوس، مُتَغاضِّين عن سفاسف الأمور وصغائرها إن حدثت (فعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ ، وعين السخط تبدي لك المساوئ).
تحيةَ إجلالٍ وإكبارٍ للعِراقِ وأهله
بكلِ أعراقه وقومياته وشرائعه وأديانه