18 ديسمبر، 2024 9:48 م

وِسادة قاضي بغداد !

وِسادة قاضي بغداد !

الراحلة أمّي عاشتْ قرابة قرن من الزمن ، واذْكر انها كانت كثيرا ما تُحَدثنا في طفولتنا عن حكمة مُلخصها أن معرفة الانسان الحقيقية تكمن في اختباره اثناء مرافقته في رحلة سفر ، فالسفر قبل قرن من الزمن كان للعامة مِن الناس يعني تَحَمل مَخاطر الطريق أمنيا اضافة الى تَوقّع احتمالات شحّة الماء او الطعام او المال وكذا احتمال فقدان المأوى ، فالانسان الذي يُرافقك ويقاسمك بأخلاص وود وسلام في رحلة سفر مثل هذه يستحقُ ان تَثق به كامل الثقة فيما بعد طالما انه نَجحَ في اختبار قاسٍ وصعب ، فمثل هذا الاختبار يُعَدُ فعلا مقياسا ناجحا لمدى مَنْ يَطمعُ في اموال او حقوق او حياة الآخرين .

في ايامنا هذه ، يتحدثُ العقلاء مِن العراقيين عن حكمةٍ مُلخصها أن الموظف أو المسوؤل في الدولة العراقية بعد 2003 والذي لم يَغتني من الرشى او السرقة بأموال العراقيين فهو أنسان يَستحقُ كل الاحترام مثلما يَستحقُ أن يتولى أفضل المناصب في الدولة ، وأمثال هؤلاء الآن قليلون وقد يكون عددهم قرابة الصفر على مستوى المدراء العاميين فما فوق .

أكتب مقالي هذا ، وفي بالي قضيةٌ مهمة جدا لقاضٍ عراقي ، كان من أوائل الطلبة في العراق في دراسته الاعدادية ، ومن أوائل الطلبة في دراسته الجامعية ، بل أنه أستاذ في المعاهد والجامعات العراقية ، ولا غرابة في ذلك فهو كان وما يزال مُؤلفاً للعديد من البحوث والكتب التخصصية النادرة في مجال العدل وحقوق الانسان .

نعم ، هذا الرجل يَدْرك جيدا ما هو ( العَدْل ) في زمنٍ باتَ فيه ( العدل ) و ( حقوق الانسان ) عملة مفقودة لا يَجدُها العراقيون في أغلب مَنْ تَوالوا على حكم العراق بعد ازاحة الدكتاتور صدام عام 2003 سوى بصورة كلمات دون تطبيق ( في أفضل الأحوال ) .

هذا القاضي تولّى لسنواتٍ مسوؤلية دائرة ( هيئة النزاهة ) الحكومية العراقية عام 2008 ، لكنه ما أن أدركَ بأنهُ سوف يُخْفق في مُطاولة ومصارعة الفساد الاداري والمالي بسبب الظروف السياسية حينها حتى بادرَ عام 2011 مُتطوعا بتركِ مُغريات مَنْصبِه مُستقيلا بدلا من أن يصبح جزءا من الفساد المستشري في الدولة العراقية ، رغم أن الكثيرين راهنوا حينها على أن المُغريات ( الدولارية المليارية ) لمنصب هذا الرجل ستكون كافية لأزاحته عن زُهْدهِ وعن فِكرهِ وعدلهِ ونزاهته لاسيما انه من ذوي الدخل المحدود جدا رغم عَمله كقاضي لسنوات طويلة سابقة .

استقالة هذا القاضي العراقي الزاهد هو ( وسام ) شرف نادر يُسَجَلَ له مثلما يَتفاخر بهذا الوسام نسبة كبيرة جدا من العراقيين حاليا وربما جميعهم في اجيال قادمة .

لا أزعُم مُطْلقا بأن هذا الرجل ربما لم يُخطأ في هذا الأجراء أو ذاك ، أو مع زيْد أم عَمْر من الناس ، فالكمال هو لخالق البشر ، سيما وأن هذا الرجل تولّى منصبا رقابيا مُهما وحساسا في أوج تعقيدات البناء الجديد لموؤسسات دولة منهارة بالكامل بعد احداث ازالة الدكتاتور عام 2003 ، لكن مُجْمل انجازات هذا الرجل في ( هيئة النزاهة ) كانت صحيحة ومبنية على أسس منطقية وعدلية وأدارية متطورة .

هذا القاضي المُستقيل أضطر مُكْرها لتَحمُل خسارة شخصية كبيرة وذلك ببيع ( وسادة نومه ) في بغداد والمتمثلة ببيته الوحيد الذي يمتلكه ( وعائلته مِن زوجة واطفال ) لتغطية تكاليف ما أجْبِروا عليه من العَيْش مُغْتربين ومُعَذبين خارج وطنهم لمدة زادت عن الثلاث سنوات .

العراقيون جميعا أختبروا القاضي الزاهد والنزيه رحيم العكيلي في سَفْرة شاقة وطويلة امتدت منذ ايام عمله في القضاء بعد تخرجه من الجامعة ولغاية يومنا هذا ، ولذا فأن نسبة كبيرة جدا منهم يَثقون به جدا وربما يَرون أن ( تَهجيره ) ومن ثُم ( أعادته ) الى بلده كان لأوضاعٍ سياسية وأن تَمّ كلا الفعلين تحت أسم القانون .

أعتقد أن أغلبية العراقيين يَرون الآن وُجوبَ أعادة وسادة مناسبة في بغداد لهذا القاضي الخَمْسيني المَظلوم لأن ذلك سوف لن يعني اعادةً لجزء من حقوقه المَسلوبة حَسْب ، بل ان ذلك سيعطي الامل بأنصاف الكثير من العراقيين ممن فقدوا وساداتهم وحقوقهم الانسانية في بلدهم ، وتلك هي النتيجة الأعظم .