قال الشّعبيّ” تعايش الناس زماناً بالدّين حتى ذهب الدّين، وتعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثمّ تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثمّ تعايشوا بالرّغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً”.
بلا أدنى شك تعتبر الضوابط العسكرية من أهم مظاهر الحياة العسكرية، والضبط العسكري واحد من أهم مميزات الجيوش المتقدمة والذي يتمثل بالتصرف السليم والمظهر الأنيق وإحترام القوانين وتنفيذ الأوامر والتعليمات التي تصدرها السلطات العليا، والضبط من مخرجات التدريب والتربية العسكرية
والإلتزام بالتعليمات، والتعود على تحمل المصاعب، وإكتساب قوة الصبر وروح التعاون، وضبط النفس وإداء الواجبات على أفضل صورة.
وبسبب إختلاف الحياة المدنية عن العسكرية فقد سنت دول العالم القانون العسكري لتمييزه عن بقية القوانين. وطالما ان عناصر الجيش والشرطة تخدم الشعب كله كما يفترض وليس شريحة قومية او دينية او مذهبية او عشائرية معينة، على إعتبار ان تتسلم رواتبها من ثروات الشعب والضرائب التي يدفعها المواطن للدولة، عليه يجب ان تتميز هذا العناصر بروح الوطنية والتآخي مع الشعب وليس قمعه وإضطهاده والتعامل معه بنظرة دونية كما يجري في العراق بعد الغزو الامريكي الإيراني. الجيوش التي لا تخدم الشعب ولا تحترمه ليست لها أدنى قيمة عند الشعب، وسيلفظها عاجلا ام آجلا، إن تجربة الفلوجة والموصل وصلاح الدين تُعد أفضل شواهد على كراهية الشعب لعناصر قوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية.
لو اجرينا مقارنة عادلة بين طريقة تعامل عناصر الجيش والشرطة مع المعتصمين في الفلوجة والحويجة ـ وهما تبعدان مئات الكيلومترات عن المنطقة الخضراء ـ مع طريقة تعاملهم مع المعتصمين من التيار الصدري على أبواب المنطقة الخضراء، لرأينا البون الشاسع بين الإسلوبين. كان الإعتصامان كلاهما سلميين، وكلاهما عراقيين، وكلاهما طالبا بإنهاء حالات الفساد الحكومي، ورفع المظلومية عن الشعب، وإنهاء المحاصصة الطائفية، وإطلاق الأبرياء من السجون، وفي كلا العهدين كان حزب الدعوة هو الحاكم، وعناصر الشرطة والجيش كما هما لم يتغيرا، والولاءات كما هي، مع ان المعتصمين في الفلوجة والحويجة كانوا بلا قيادة مذهبية، ويحملون سجادة الصلاة والقرآن الكريم، في حين كان إعتصام المنطقة الخضراء بقيادة مذهبية، والمعتصمون يرفعون صور قائدهم المفدى كما يسمونه.
الفرق ان قوات الجيش والشرطة إستقبلت الصدريين بترحاب لا نظير له، وفتحت لهم الجسور والطرق، وسمحت لهم بإقامة الخيم وإعداد الطعام، ووفرت كل مستلزمات إنجاح الإعتصام، بل رأينا ما يثير العجب كأن يرتمي مسؤول أمن المنطقة الخضراء الفريق الركن (محمد رضا) على يد مقتدى الصدر ليلثمها! وكذلك فعل العشرات من الضباط والمراتب، وهم يُحيون الصدر ويهتفون بإسمه ويرفعون شعارات التأييد لإعتصامه! بل ان بعض الضباط والمراتب يقدمون الخدمات للمعتصمين كالشاي والقهوة. وهؤلاء هم أنفسهم الذين إستباحوا دماء المعتصمين في الفلوجة والحويجة والزركة ونفذوا مجازر تأريخية لا يمكن محوها، بأمر من ما يسمى برئيس دولة القانون.
الأسئلة المطروحة: لماذا هذه الإزدواجية في التعامل من شرائح الشعب مع ان المطالب هي واحدة؟ هل هناك إختلاف في طريقة الإعتصام السابقة واللاحقة وكلاهما سلميتان، فأوجبت الأولى إستخدام السلاح والثانية الترحيب بالمعتصمين؟ أي من الإعتصامين يهدد فعلا المنطقة الخضراء ويشكل خطرا على ساكنيها من الفاسدين والعملاء؟ أي من الإعتصامين يهدد الأمن الوطني برمته، وجاء توقيته في فترة قلقة للغاية؟
هل يمكن أن نصف بموجب إختلاف الأساليب قوات الجيش والشرطة بأنهم غير طائفيين، ناهيك بالطبع عن الشعارات الطائفية المرفوعة، والملصقات الحوزوية على المدرعات والدبابات، وتسمية لواء العلقمي، وتسمية المالكي (الفرقة الذهبية) لأن أساسها التأريخي هي الفرقة التي أسسها الفارسي آغاسيد محمد القريشي، والشتائم عبر مكبرات الصوت في المناطق ذات الأغلبية من أهل السنة، اللطم في ساحات التدريب وغيرها من التصرفات التي تدل بأن هذه القوات تمثل طائفة واحدة فقط، وليس الشعب العراقي كله. عندما يصبح المذهب هو المرجعية السياسية، ويتحكم في المصلحة الوطنية وليس العكس، فإن التنازع بين شرائح المجتمع سيكون بمثابة الشرارة التي تشعل الحريق، فتتشظى الدولة إلى شظايا متنافرة ومتباغضة ومتصارعة.
لو وضعنا هذه الإمور جانبا، سنجد ان وزارة الداخلية أصدرت بيانا حذرت فيه منتسبيها من مغبة التضامن مع مقتدى الصدر والمعتصمين، بعد أن تبين لها ان ولاء عناصرها للصدر وليس للحكومة والوزارة، ولا نقول للوطن، فالوطن ومصلحته بمعزل عما يجري حاليا. بل تمادت الوزارة في غييها مهددة بعقوبة الإعدام لمن يخالف أوامرها، وكأن الوزارة ليس لها سابق عهد بأن عناصرها ذوو ولاءات متعددة،! عناصر ميليشيا بدر في الوزارة مثلا ولائهم للعامري وليس للحكومة، بإشارة واحدة من العامري لعناصر ميلشيا بدر في وزارتي الدفاع والداخلية سوف يقبلون ظهر المجن لحكومة العبادي، وهذا ما يقال عن بقية الميليشيات المنضوية تحت جناح وزارتي الداخلية والدفاع.
إن جريمة دمج عناصر الميليشيات الإجرامية مع قوات الجيش والشرطة وبقية الإجهزة الأمنية هو الذي أسس لتنوع الولاءات. وهذا الأمر لا يقتصر على هاتين الوزارتين بل على كل الوزارات العراقية.
لا ولاءات للوطن! الولاء للحزب والميليشيا التي كان لها الفضل في تنسيب هذه العناصر في الأجهزة الأمنية، وتوزيع الرتب العسكرية بصورة هزلية، مع أن معظمهم من أصحاب السوابق وأسافل القوم. يقول مونتسيكو “إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل من الرجال، فضع في يده سلطة أو مالاً، ثم أنظر كيف يتصرف”. فلا عجب من تصرفاتهم.
اشارت وزارة الداخلية الى ان نص البند (اولا/أ) من المادة (3) من قانون العقوبات رقم ( 14) لسنة 2008 المعدل بالقانون رقم (38) لسنة 2015، حيث ورد في البند (ثانيا) من المادة (29) من القانون المذكور ((يعاقب بالحبس كل من انتمى الى حزب او جمعية سياسية او شارك في مظاهرة سياسية او وجد في اجتماع سياسي او كتب مقالات سياسية او القى خطابا سياسيا حزبيا في وسائل الاعلام او حرض غيره للقيام بهذة الاعمال)).
حسنا! لو طبقنا هذه المادة على الوزارة، فهذا يعني ان جميع منتسبي الوزارة إبتداءا من الوزير لحد عمال خدمات الوزارة يجب أن يعاقبوا بالحبس! لأنهم جميعا منتمين الى أحزاب سياسية. هل وزير الداخلية على سبيل المثال او وكلائه وكبار الضباط لا يشاركوا في إجتماعات سياسية مع أحزابهم الحاكمة؟
ممن يتسلم وزير الداخلية الأوامر، من رئيس الوزراء العبادي او رئيس حزبه هادي العامري؟ ولو افترضنا كان هناك تعارض في الأوامر بين العبادي والعامري، من سيطيع الوزير؟
الجواب معروف بالطبع!
من موقف الحكومة تجاه الإعتصام الصدري، يمكن ان نستخلص الأتي: أما ان الحكومة طائفية للعظم، وترفض اي تحرك لأهل السنة وتجد ذريعة مناسبة لتصنيفه كإرهاب. أو ان الإعتصام بحد ذاته مسرحية مفبركة بين الحكومة والصدر، سوف تنتهي كما بدأت دون أن تترك أثرا نافعا للشعب، والأيام القادمة شواهد.