سلكت طريق الإغتراب مضطراً غيرّ باغٍ. بحثاً عن أمنٍ أفتقده في بلادي. وحرية غيبها السلطان. صاحب القضاء والقدر. قابض الأرواح. أصبحَ مطلوباً تغييب الأقلام الحرة. وما يمثله ذلك القدر الضئيل من الحرية الذي مثلته أقلامنا ومواقفنا. لا نملك ما ينفي الإحساس بالموقف السلبي من الحرية وأقلامها لأن كل مايحيط بنا يؤكده واقع بائس. ثمة حقيقة كثيراً ماننساها هنا في الشرق الأوسط وهي أن العمل الصحفي يخضع لشروط جغرافيته. أي إنه يتعامل مع المكان الذي يقضم من الحقيقة أو يطمس بعض معالمها أو يفرض شروط مصالحه وأمنه. وإذن فإن بعض ما نكتب ليس كل الحقيقة. إنه الجزء الطافي على وجه جغرافيا المكان، أما الأجزاء الأُخرى فغارقة في الأعماق وقد تستحضرها شروط جغرافيا أُخرى. شروط جغرافيا تمارس فيها الحرية هناك في “الغربة” من دون قيودها هنا في “الوطن”. نتوقف قليلاً عند عنوان الشرط الجغرافي. في الخارج حيث الحرية هي الأساس، يمكن للرأي أن يطفو على السطح من دون قلق. فالحرية تحمي بقوانينها ومجتمعاتها حقائقها وأقلامها. هنا في الداخل العراقي- الإيراني وملحقاته حيث الأنظمة والمؤسسات مغلقة ومعها الأبواب والنوافذ ماعدا شقوق تتسلل منها خيوط نور واهية إلى مساحات عتمة عظيمة السواد، تضيء قليلاً وقد يخشى البعض أو الكل أن ينتشر الضوء فيفضح. هنا في هذا الداخل المغلق بالخوف والعصبية والسلاح يصعب تمرير كل الحقيقة. هنا يمكن بيع الحقيقة. يمكن مبادلتها بالأمن. يمكن إسكاتها بالخوف. يصعب قول ما يغضب صاحب السلطة على الأرض لاصاحب السلطة على الورق. صاحب القوة لاصاحب التوقيع. صاحب المال لاصاحب الموقف. الحرية هنا تعني المواجهة مع قوى الظلام، دينية- مذهبية كانت، أما مادية تمسك بالينابيع وتروض الحرية. وفي نهاية الأمر فالقمع بسطوة المال يستوي مع سطوة السلاح. كلاهما يزور الحقائق على الأرض. كلاهما خائف مخيف. ويبقى أن نسأل: ما الحل..؟.. الحل هو في الجغرافيا. فحين يتعذر أن تُقال الحقيقة في الجغرافيا المغلقة هنا في أرض الوطن المسكونة بالأشباح والماضي يمكن قولها هناك في الجغرافيا المفتوحة المسكونة بالإنسان والمستقبل. وإذا ضاقت مساحة الحرية في أرض صراع ملتبس العناوين فإن مساحتها منبسطة المدى في غير أرض واضحة المعالم. هناك في الأرض الأُخرى- المهجر- يمكن قول كل شيء. يمكن إستعادة حرية إنتقصها قدر من الضعف وأقدار من خوف البدائل. لم يعد الضعف مبرراً أم مقبولاً. لم تعد البدائل أسوء. الواقع سيء بقدرٍ كافٍ. أي خيار..؟ ذلك هو السؤال.