لا أكاد أخطئ أو أجانب الصواب حين أزعم ؛ إن الثقافة في العراق هي الخاسر الأكبر من بين كل عناصر الوجود الاجتماعي ، ناهيك عن الوعي الاجتماعي – إن كان هناك وعي أصلا”- سواء كان ذلك في عهد النظام السابق وما أصابها من ضمور في الإبداع وانحسار في العطاء ، أو في عهد النظام اللاحق وما لحق بها من تشويه في المعنى وتسفيه في المبنى . وذلك ليس لأنها في عهود التعهّر السياسي والتقهقر الاجتماعي والتحجر الفكري والتصحر الحضاري والتبربر الانساني ، تغدو نشاط نافل لا قيمة له ولا اعتبار ، من حيث كونها تحضّ على التعقل في الخطابات والتواصل في العلاقات والتفاؤل في التوقعات فحسب ، بل وكذلك لأن فيها وعليها ما يميط اللثام عن المفاسد في السياسة ، وما يكشف عن التجاوزات في الاجتماع ، وما يفضح الانتهاكات في الحقوق ، وما يقوض الأيقونات في الوعي . ولهذا فليس من الصعب على من يروم معرفة حال الثقافة ، من الإطلاع على أوضاع المجتمع الذي تكونت في رحمه ، وترعرعت في بيئته ، وتتبعت مسارات حراكه ، وعكست تقلبات إرهاصاته . فإذا ما كان الواقع الاجتماعي يعاني الاضطراب في أحواله والاغتراب في قيمه والتفكك في أواصره والقطيعة في أرحامه ، فلك أن تستنتج ودون مجازفات تذكر ، إن الثقافة فيه أصبحت عاقرا”، وان الفكر لديه أمسى عقيما”. بمعنى آخر إن الثقافة ، وكأي نشاط روحي وفاعلية رمزية ، تستمد مقومات وجودها ، وتختزن عناصر نموها ، وتستبطن عوامل تطورها – وهو الأمر الذي يؤكد صلاتها ويرهن علاقاتها ويدمغ مضامينها – بمختلف أنماط الواقع الانطولوجية ، وتنوع أطره السوسيولوجية ، وتعدد أصوله الانثروبولوجية ، وتباين مستوياته الابستمولوجية ، واختلاف دينامياته السيكولوجية . لذا فان أي طارئ يتخلل نسيج هذه الشبكة المعقدة ، من خلال الأزمات السياسية ، أو الانعطافات التاريخية ، أوالاختلالات الاجتماعية ، أو التحولات الحضارية ، فلا مناص من توقع انسياح آثاره على منظومات الثقافة ، وانثيال تداعياته على بنى الوعي ، عاملا”على تضعضع الأولى وتخلع الثانية . والجدير ملاحظته بخصوص هذه الإشكالية ، هو إن مظاهر التبدل وظواهر التحول التي تطرأ على مضمار الوعي الاجتماعي بشكل عام ، وحقول الثقافة بوجه خاص ، لا تأخذ طابعا”واحدا”في التجلي ولا تسلك مسارا”متشابها”في التمظهر . بل إن ذلك يعتمد – من جملة ما يعتمد- على طبيعة المجتمع المعني وماهية الواقع المقصود وخاصية السياق المستهدف ، آخذا”بنظر الاعتبار حجم التغيير وسرعة التحول وعمق الانقلاب . وحين نتحدث عن الوضعية المأزقية التي تتعرض لها الثقافة الوطنية أو العليا – سمها ما شئت – في المجتمعات المأزومة ، كما هو حال المجتمع العراقي اليوم ، فإننا لا نقصد فقط مجرد وقوعها فريسة هوس السياسة المستقطبة وطيش السياسيين الموتورين ، بحيث تتحول إلى أداة من أدوات تزويق الشعارات وتسويق الخطابات فحسب ، بل والأهم من ذلك اشتغالها كوسيلة من وسائل ؛ تفعيل الثقافات الفرعية ، وتنشيط الهويات التحتية ، وتغذية النعرات العصبوية . مما يستتبع توظيفها من حيث لا تريد في تفكيك عرى المجتمع وتقطيع أواصره ، واستغلالها من حيث لا ترغب في تأزيم الخلافات السياسية وتأثيم الاختلافات الحضارية ، وبالتالي فقدانها لأهم وظيفة من وظائفها المتعددة والمتنوعة ، ألا وهي تنمية الشعور بالمواطنة ، وتعزيز سلطة العقل ، وتماسك وحدة الاجتماع ، والاعتزاز بالشخصية الاجتماعية . وبالعروج إلى خصائص المنظور العقلاني / النقدي ، لاستكناه توجهات الثقافة العراقية على مستوى تعاطيها مع الانهيارات السوسيولوجية للمجتمع العراقي من جهة ، وعلى صعيد تعاملها مع الارتكاسات المعرفية لذهنيات أفراده وعلاقات جماعاته من جهة أخرى ، فان الحصيلة الإجمالية ستكون كارثية بكل المعايير والمقاييس ؛ لا من حيث تأثيرات الواقع على مكونات الوعي لأقنمة أساطيره وتوثين خرافاته فحسب ، بل ومن حيث ارتدادات الوعي على انحرافات الواقع لتأبيد تخلفه وتخليد اغترابه . وهنا تتخذ الجدلية الاجتماعية مسارات مغايرة واتجاهات متعاكسة – إن جاز لنا قول ذلك – إذ بدلا”من أن يكون الواقع تربة خصبة لاستنبات الأفكار العقلانية ، وبيئة ملائمة لنمو التصورات الإنسانية ، فانه يعمل على كبح كل ما هو جديد في الحالة الأولى وقمع كل ما هو مستحدث في الحالة الثانية . وبدلا”من أن يحضّ الوعي عناصر الواقع على سلخ أرديته الفضفاضة من العادات وقلع أشواكه الضارة من القيم ، فإذا به يسعى لتصنيم تقليديته في المجال الأول وتأثيم حداثته في المجال الثاني . من هنا يمكننا ، وبلا أدنى تحفظ ، الاستنتاج بان الحاضر المتردي للثقافة في العراق ، ليس من المستبعد أن ينبئنا بالمستقبل المأساوي الذي ينتظرها ، ليس فقط كأفكار ورموز وتصورات فحسب ، بل وكعلاقات وسلوكيات وخطابات ، طالما وان كل المؤشرات السابقة والتوقعات اللاحقة ، تؤكد بما لا يقبل التعليل والتأويل إن المعطيات القادمة ستكون حبلى بالأزمات السياسية ، ومتخمة بالتوترات الاجتماعية ، ومزدحمة بالاستقطابات الطائفية ، فيما لو استمرت الأوضاع مضطربة والظروف ملتهبة والخيارات متذبذبة والرهانات متقلبة . وإذا كانت الثقافة تعني أنها الركود الحضاري وقد استحال إلى دينامية ذاتية تسابق الزمن وتطوي المراحل ، لتبلغ الذرى في العطاء الروحي وتتسلق مدارج التفوق في الإنتاج المادي ، وأنها الطبيعة الجلفة وقد تحولت إلى روابط اجتماعية حميمة وعلاقات إنسانية متكافئة ، وأنها الغريزة المتعطشة للقتل والعدوان والتغالب وقد استقامت إلى مشاعر للتراحم والتآلف والتآخي يردفها ويحَضّ عليها ، نبل المقاصد وسمو الغايات. نقول إذا كانت تعني هذا وغيره كثير، فما هو يا ترى نصيب حضورها – وفقا”لهذا المفهوم – في عراق اليوم ، حيث الاهتراء الحضاري والتآكل القيمي والانحطاط الفكري والتعهر السياسي ؟! . سؤال نترك مهمة الإجابة عنه إلى ضمير مثقفينا وساستنا الذين لوثتهم جراثيم النزعة الطائفية واستدرجتهم طفيليات الفزعة القبلية !!! .
[email protected]