هل يتكرر السيناريو العراقي في سوريا، أم ثمة سيناريوهات أخرى لا تقل خطورة عن السيناريو العراقي؟
فعلى الرغم من التباين والاختلاف بين البلدين وخصوصية تطورهما وخصائص شعبيهما، الاّ أن هناك الكثير من المشتركات بينهما، فسوريا مثل العراق حكمها حزب البعث « القائد» بموجب «الدستور»، مثلما حكم شقه الثاني العراق، وسوريا مثل العراق خسرت حلفاءها الإقليميين الواحد بعد الآخر، وهو ما حصل للعراق أيضاً. وسوريا مثل العراق فقدت حلفاءها الداخليين ويعاني نظامها مثل النظام العراقي السابق من العزلة، كما بدأت بعض قواه تتسرب بهدوء أو بضجة.
وسوريا مثل العراق خسرت حلفاء دوليين، لكن بعض التغييرات التي شهدها المسرح الدولي ألقت بثقل روسي وإلى حد ما صيني في مجلس الأمن وخارجه، في محاولة للتخفيف من عبء الضغوط التي تتعرض لها سوريا وتريد الإطاحة بنظامها السياسي.
واستندت سوريا، مثل العراق، على جهاز مخابرات ضارب بدأ يفقد الكثير من قدراته، وهو ما حدث للعراق في سنواته الأخيرة، وسوريا كانت مثل العراق تمتلك صداقات في أوساط المثقفين والإعلاميين، بدأت تخسرهم بصمت أو بإعلان، بل إن بعضهم بالغ في إظهار العداء لتوجهاتها، لا سيما وقد استشعر سرعة العدّ العكسي التنازلي، وإنْ بقي بعضهم يدافع، وربما يستمر حتى الرمق الأخير عنها، مثلما دافع عن العراق، بحجة مقبولة مثل الموقف ضد الحصار وضد العدوان والتدخل الخارجي، أو بحجة مبطّنة أو متواطئة للدفاع عن نظام الاستبداد والدكتاتورية.
والمعارضة في سوريا منقسمة، مثل المعارضة العراقية، في الموقف من الحصار والتدخل الخارجي ونظام العقوبات الدولية. وسوريا مثل العراق تعاني من مشكلات أساسية مثل المشكلة الكردية التي احتدمت مؤخراً في سوريا، حيث كان نحو 300 ألف مواطن كردي سوري بلا جنسية وأخذت تتبلور فكرة «الحكم الذاتي» لدى بعض الأوساط السياسية والثقافية الكردية، كتعبير عن سوريا الجديدة الديموقراطية، والتي ينبغي لها الاعتراف بالحقوق السياسية والثقافية والقومية للكرد.
وسوريا مثل العراق تعاني من إشكاليات طائفية، بسبب « أقلوية» سياسية انعكست على فريق الحكم مذهبياً، حيث يستأثر عدد منهم بقيادات الدولة العليا ويتصرّف بعضهم بطريقة استعلائية إزاء الآخرين، مثلما كان يتصرّف بعض شخصيات الحكم في العراق المتحدرّين من مناطق معينة بطريقة فوقية، لا سيما وقد اتخذت المسألة بُعداً أكثر سفوراً بعد حملات التهجير العراقية في العام 1980 وعشية الحرب العراقية ـ الإيرانية، التي شملت بعض الشيعة والكرد الفيلية بحجة التبعية الإيرانية.
وسوريا مثل العراق يتحدّر فريقها الحاكم من قرداحة في حين يتحدّر فريق الحكم الحاكم في العراق قبل الاحتلال من تكريت، وسوريا مثل العراق شهدت استهدافاً للمسيحيين، وهو ما انعكس في العراق خلال الحصار والحرب، وتعاظم على نحو مريع بعد الاحتلال، وكان هو الأخطر، وهو ما برز في سوريا خلال احتدام الصراع، ولا سيما المسلّح بين المعارضة والحكومة.
وسوريا مثل العراق كانت أقرب إلى دولة مدنية وكانت المرأة تتمتع ببعض الحقوق، لا سيما في جوانبها الاجتماعية والثقافية، ولعل هذه الحقوق قد تتعرّض للتهديد فيما إذا انتصر النموذج الإسلامي مثل العراق، حتى وإنْ كان بواجهات سياسية وبمشاركات شكلية لتعددية أقرب إلى المحاصصة السياسية، لكن الجو الديني والتزمّت الاجتماعي أصبحا سائدين.
سوريا مثل العراق بدأت الدولة تفقد سلطانها وسيطرتها ونفوذها تدريجياً على مناطق من البلاد، وأخذت المجاميع المسلّحة تهاجم مواقع عديدة للدولة ومرافقها الحيوية وهياكلها الارتكازية.
سوريا مثل العراق أزمتها عربية، حيث بدأت الدول العربية بمحاصرتها وإصدار قرارات من جامعة الدول العربية، هذه المرّة وتخويل للأمم المتحدة ومبعوثها كوفي أنان، وتصرّفت سوريا مثل العراق في إطار ردود فعل، ومن دون حساب موازين القوى.
سوريا مثل العراق تتعرض لحصار دولي جائر وقرارات دولية مجحفة ستزيد من معاناة السكان المدنيين ومن تفكك النسيج المجتمعي السوري ومن مضاعفة التدخل الأجنبي، لا سيما إيجاد مرتكزات داخلية له. ولعل نظام العقوبات سيسهم بشكل سريع وحاسم مثل العراق في تهيئة مستلزمات الانهيار، حيث يمكن أن تسقط سوريا مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، بالتدخل الخارجي أو حتى بدونه، وقد يطول الأمر وقد يقصر، لكن قطار العقوبات الدولية طالما أصبح على السكّة، فإنه لن يتوقف إلاّ في المحطة السورية بعد الإطاحة بالنظام.
وسوريا مثل العراق عدو لإسرائيل، والأخيرة لن تدّخر وسعاً لحل الجيش السوري مثلما حصل للجيش العراقي، وهو الهدف الأكثر خطورة. وسوريا مثل العراق ستخسر الكثير من علمائها وأكاديمييها مثلما خسرت في العقود الثلاثة ونيّف الماضية، وستضيع وتتبدد الكثير من الطاقات، ذلك أن إعادة البناء بعد الهدم والتفكيك، ستكون طويلة وقاسية.
القيادة السورية مثل القيادة العراقية رفضت جميع النصائح بحل سياسي وقبول انتقال سلس للسلطة نحو الديموقراطية والتغيير الديموقراطي، ولعلّ نتيجة هذا الرفض ستكون مكلفة على الجميع بما فيه النظام السوري وأركانه، وكان يمكن قبول حل سياسي منذ بدايات الأزمة بتشكيل حكومة ائتلاف وطني ثلثها من المعارضة وثلثها الآخر من حزب البعث وثلثها الأخير من المستقلين والتكنوقراط، وبقيادة المعارضة، وهناك وجوه بارزة تم ترشيحها لإدارة دفة السلطة خلال الفترة الانتقالية في إطار التنوّع والتعددية ومشاركة غالبية القوى المعارضة وتحديد فترة 6 أشهر أو 9 أشهر لإجراء انتخابات حرّة نزيهة بإشراف دولي وإجراء تعديلات دستورية وإلغاء قوانين ذات عقوبات غليظة أو مقيّدة للحريات، وسنّ أخرى بما يكفل إنسيابية التغيير والتواصل بدلاً من القطيعة، ودرء الخطر الخارجي بالتدخل أو التسرّب سياسياً وعسكرياً.
لكن القيادة السورية لم توافق على حلول من هذا القبيل، ولم تتوقف عمليات الملاحقة والقمع والإرهاب للحركة السلمية والمدنية الاحتجاجية الواسعة، التي لجأ بعض أطرافها لاحقاً وبعد مرور بضعة أشهر إلى السلاح، وهو ما لقي تشجيعاً رسمياً عربياً وإقليمياً ودولياً، سواءً من قطر أو المملكة العربية السعودية أو من تركيا أو الاتحاد الأوروبي وبموافقات ضمنية أميركية، معلنة أو مستترة.
وسوريا مثل العراق يمكن أن تذهب ضحية «فرق عملة»، كما يقال، بسبب تصريحات لمسؤولين رسميين، لعلهم بلا مسؤولية، عندما يتحدثون عن وجود أسلحة كيمياوية، وذهب خيال الإسرائيليين إلى احتمال تسليمها إلى حزب الله «الإرهابي» من وجهة نظرهم والذي يمكن أن يستخدمها ضد إسرائيل، الأمر الذي قد يعطي مبرراً لتشديد الحصار على سوريا، بل وحتى ضربها في إطار استهداف عسكري يطال سوريا ولبنان في الآن.
الولايات المتحدة تريد التعامل مع سوريا مثل العراق، أي خارج مجلس الأمن وذلك في مسعى لإدامة الصراع الداخلي ليتحوّل إلى حرب أهلية، أو ربما باتخاذ خطوة لاحقة بالتدخل العسكري (لم يحن وقتها) كما حصل بالنسبة للعراق، فعندما لم تستطع واشنطن الحصول على قرار جديد بعد القرار 1441 عشية الحرب على العراق، لجأت ومن دون تفويض إلى شنّ الحرب عبر تحالف خارج الأمم المتحدة.
وسوريا مثل العراق لم تستطع المبادرات المطروحة عليها إخراجها من النفق، لا سيما لجهد متوازن، حيث أصبحت العودة إلى منطق الحوار تعبيراً عن التمسك بالهوية الوطنية والحل الداخلي مستعصية، كما أن استمرار الحال على ما هي عليه قد يطول وقد يفرض نوعاً من الملاذ الآمن save haven أو الحظر الجوي No Fly zone كما حصل للعراق، وهذا سيعني التفتيت والتشظي، وكلّما طال الأمد كلما زادت معاناة الناس وهمومهم.
بقي أمر أساسي تختلف به سوريا عن العراق، وهو أن لها تحالفاً متيناً مع «حزب الله» اللبناني الذي يحظى بصدقية عالية، لا سيما في مقاومته للمشروع الصهيوني وتصدّيه للعدوان الإسرائيلي، وهو حليف قوي وأساسي لإيران في المنطقة، مثلما هو النظام السوري، وإنْ كان ذلك عنصر قوة لاستمرار الوضع، كما هو الموقف الروسي، الاّ أنه عنصر ضعف في الوقت نفسه، فالأزمة الداخلية تتفاقم وأعمال العنف تتسع، والفوضى تنتشر، واحتمالات التفتيت والتشظي تلوح في الأفق، بل تدّق على الأبواب، والعودة إلى الوراء غير ممكنة، بل مستحيلة.
هل أصبح اقتفاء أثر السناريو العراقي «حتمياً» أم ثمة احتمال آخر؟ فإن لم يتم قبول مبادرة وحيدة لإنقاذ ما تبقى من سوريا، وهي الانتقال السلس والسلمي للسلطة، ووضع حد لعهود الاستئثار والدكتاتورية، وتحديد فترة انتقالية وإجراء انتخابات حرّة في إطار التعددية فإن سوريا ستزداد لظىً على النار «العراقية».