17 نوفمبر، 2024 11:50 م
Search
Close this search box.

وهن الابداع في الفعل الثقافي العراقي

وهن الابداع في الفعل الثقافي العراقي

لا شك ان الظروف الثقافية الصعبة التي يمر بها واقعنا الثقافي في العراق تضع على عاتق النقد مسؤولية مضاعفة، لانها تجعل الناقد مسؤولاً عن مجموعة من الوظائف الثقافية التي ما كان عليه ان يهتم بها في واقع ثقافي صحي. فلو كان الواقع الثقافي العراقي صحياً لكان على النقد فيه ان يتفرغ بمهامه الرئيسية من انجاز الدراسات التحليلية والمسحية والتاريخية الجادة، ومن خلق تيار من الرؤى التي ترفد عملية الابداع وتبتعد بها عن الروافد الناضبة او المتاهات العقيمة، ومن اعادة فرز القيم الثقافية واعادة ترتيب المكانات الثقافية بين كل فترة واخرى، ومن متابعة للانجازات الثقافية ومناقشة للقضايا الفكرية الهامة.
لكن النقد الثقافي يجد نفسه في واقعنا الثقافي الموبوء الذي تكاثر فيه الغثاء النقدي واختلت فيه القيم والمعايير، وامتلاء سوق الثقافة فيه بالنقدَّة الذين يفهمون النقد على انه نوع من الارتزاق وتحقيق المآرب وتمييع الضمير الفكري مضطراً الى تقديم عدد آخر من الوظائف على تلك المهام الرئيسية. فقد افرزت سنوات الازمة الثقافية والوطنية العصيبة في العقود الاربعة الاخيرة بما فيها عقد الاحتلال، اعراضاً مرضية مزمنة كان من ظواهرها ان تسنم بعض المنابر الثقافية بغاث الكتبة الذين تجردوا من اي ضمير او ثقافة، والذين احترفوا الكذب والوشاية وكتابة التقارير ضد المثقفين.
في هذا المناخ الموبوء يجد الناقد الثقافي ان عليه ان يقدم مهمة فرز الخبيث من الطيب على ما عداها من المهام النقدية الملحة، وان يولي مسألة اعادة تأسيس القيم والبديهيات النقدية التي عصف بها التردي، وعبث الكتبة المدعومين من أيادي خفية، وان يكون واحد من الاصوات النقدية التي تخلص لقيم النقد العراقية الأصيلة في وقت عزت فيه الاصوات الاصيلة وتاجر فيه الجميع بكل شيء حتى بالوطن نفسه، ناهيك عن حفنة من القيم الثقافية التي يسهل الخلاف عليها لذلك كان من الطبيعي في زمن اختلاط الاوراق والانقضاض على المنابر الثقافية من الابواب الخلفية الا يجد الناقد العراقي منبراً ثابتاً في العراق، بينما اعتلى المنابر الثابتة فيها بعض الذين تاجروا بالوطن… ولما كسد سوق الارتزاق وبارت بضاعتهم المغشوشة عادوا للانقضاض على الصحف والمجلات (الاحتلالية) متذرعين بالطائفية تارة وبالمليشيات تارة اخرى.
ان المهمة النقدية التي تؤمن بأن الدور الثقافي لا يتحقق الا اذا ما سار يداً بيد مع التقييم والتقويم حيث تصبح القيمة المعيارية بل والقيمة الاخلاقية او الفكرية، احدى ضرورات الرؤية الدلالية في التحليل النهائي عند هذا الناقد، فالكتابة عنده لا بد ان تنطوي على رؤية ولا بد ان يكون للكاتب موقفاً واعياً صارماً من كل ما يدور في واقعه. عليه، ان يحاسب نفسه، فذلك، هو السبيل لاستقامة الحركة الثقافية وتخلصها من عناصر الزيف والتدليس.
ان النقد في الفعل الثقافي العراقي وفي وضعه الراهن، تسوده حالة من الوهن قلما عرفته الحياة الثقافية العراقية من قبل، على بساطة منجزها. وهذا ما يؤكد على ان فعلنا الابداعي النقدي مازال في مرحلة التجريب. ودلالة هذه الحالة السائدة في نقدنا الثقافي الراهن، هي في رأيي انعكاساً لما نشهده ونتأثر به من اضطراب عام في المناخ العربي والدولي الذي نعيش فيه كجزء منه. فثمة ازمات متلاحقة مستعصية ومستجدة تنهمر بلا هوادة ولا رحمة يتسارع ايقاعها يوماً بعد يوم وتشتد قبضتها حيناً بعد حين. فهناك ظواهر مبهمة يحار ادراكنا حيالها، وهناك عالم متغير لا يقر له قراراً، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وموازين تضطرب ومعايير تسقط وفتن تنهض واشراقات تتجلى وومضات تنطفيء واخرى تشتعل… عالم يموج واعاصير تكتسح كثيراً من الثوابت وتتخطى حاجز المعقول. اذن، حالة الوهن هذه هي سمة اللحظة التاريخية التي نعيشها وليست القيم الجمالية لهذا العالم الذي يجيش بالمتغيرات.
اننا امام آفاق مجهولة المدى ومضطرب كوني رهيب تعصف بنا حركته، فكل شيء عائم في حالة سيولة دائمة، ولكن هذا لا يعني ان يصاب نقدنا الثقافي بالعقم، فهناك منجز ثقافي ولكنه لا يشبع لاسباب ترجع في مجملها الى نوع هذا المنجز الذي لم يبلغ المستوى الرفيع على التأثير في القراء، لأن هؤلاء انفسهم تثقفوا واتسعت ثقافتهم حتى بلغت ببعض منهم مستوى الكاتب المبدع واكثر.
لهذا كان رقي القارئ العراقي فكرياً وتوسعه ثقافياً من الامور التي تتطلب ثقافة ذات مستوى راقٍ، ومثل هذا النوع من الفعل الابداعي الثقافي سواء في الادب بأجناسه او الفكر بصورة عامة، قلما يصدر عنه كتاب، فعندما اقول: ان هناك وهناً، فمعنى هذا ان هناك وهناً نسبيا ولكنه وهن بالنسبة لهذا القارئ الى ما هو جيد واكثر اثارة واكثر هماً. فالمنجز مستمر وفي مختلف اشكال الثقافة لكن حاجة القارئ تتسع لما هو اكثر من الانتاج الفعلي.
ولما كان كتابنا يعيشون عصرهم بكل معطياته ويطمحون الى القبض على جوهره والامساك بأحدث مستجداته، فان العديد منهم قد ابتلعه طوفان هذا الوهن وعدم الاستقراء والثبات، واستحوذ على قلمه وكلماته، خاصة وان اغراء التجاوز والتخطي قد اكتسح المسلمات والمرتكزات ولكن مع هذا كله فان هناك من ينسج حضوره بتؤده ورفق  ليرسخ اقدامه في ارض الابداع.
ان الابداع في المنجز الثقافي العراقي المعاصر بكل اشكاله لايروي ظمأ القراء على الرغم من اننا في مرحلة انتقالات/ تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية تستوجب ايضا انتقالات فكرية عامة. ولأن المجتمع العراقي الآن اصبح اكثر تعقيداً وتشابكاً فقد دخلت معادلة الكاتب/ الجمهور اطراف اخرى واصبح لها ثقلها.
فالابداع/ الكاتب بلا جمهور/ قراء عملية ناقصة، لان الابداع يحتاج جمهوراً/ قراء. وهذا الاخير يحتاج ابداعاً، وفي ظل مجتمع كمجتمعنا يتوفر الاثنان، فان المعادلة تحتاج الى وسائط/ اطراف كي يتم التفاعل.
والوسائط/ الاطراف كانت وما زالت بيد دوائر ثقافية مختلفة اصبحت وصية محتكرة لمعظم نوافذ النشر والتوزيع تمنح الفرصة لكتابها / موظفيها ، ومقربيها ، وتمنعها عن كافة المبدعين الآخرين لانها تخشى الابداع الحقيقي فتقمع اصحابه وتضطهدهم لصالح شلة المثقفين والمزورين والراقصين في كل افراح المؤسسة السياسية والثقافية. ومن هنا يزداد الامر صعوبة حيث تجري عملية صياغة ذوق وثقافة الجمهور/ القراء او تشويههما على الاقل.
انني استطيع القول على سبيل المثال لا الحصر، ان المرحلة الثقافية التي مر بها العراق من منتصف الخمسينات الى نهاية الستينات من القرن الماضي، كانت فترة تواصل ابداعي بحيث يمكننا ملاحظة جيل الخمسينات ابدع مدرسة تختلف عنه وقام جدل بين جيل الستينات وبين جيل الخمسينات، وهذا دليل الخصب لا دليل التوقف. اما من بداية السبعينات والى الآن ، فان المرحلة واهنة راكدة غير مبدعة، بمعنى آخر، انها قليلة الانتاج- اذا لم تكن معدومة- اي ان الفعل/ المنجز الثقافي كثير من حيث الكم قليل من حيث النوع، لكن النوع ليس بالمستوى الثقافي الذي يروم اليه القارئ العراقي، وقد بلغ مستوى الكاتب المبدع كما ذكرنا سلفاً.
ليس بمعنى هذا ان الحياة عقيمة وانما ليس هناك تواصل في الابداع ولا تطور كيفي ينقل الظاهرة الثقافية من حال الى اخرى.
لقد بات هناك نمطين متباعدين وربما متناقضين من انماط الفعل الثقافي عندنا الذي يتشكل منه واقعنا الثقافي ، الاول- يتسم بالسطحية والتسريع مع ولع شديد بالاتكاء على الضجيج الاعلامي وشبكة العلاقات الشخصية، ويروج لقيم ورموز ثقافية عاجزة عن التفاعل مع حركة الواقع وشروطه، وعاجزة، من ثم، عن احداث أثر ايجابي في حياة الناس افراداً وجماعات. والثاني- تيار ثقافي متماسك مدرك بعمق لمفردات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويتعامل مع هذا الواقع من داخله وفق منظور فكري واضح لتحقيق غايات محددة بهدف تعزيز الثقافة الوطنية الديمقراطية القادرة على اغناء الواقع الاجتماعي والدفع به الى الامام.
في تاريخنا الفكري العربي هناك ما نسميه بعصور الانحطاط. لماذا حدث هذا الانحطاط الفكري بعد الانتعاش وبعد التفوق؟ لأن لكل شيء مرحلة يبلغ منها ذروته ثم ينتكس ثم يؤدي هذا الانتكاس الى وجود الاكثر ضحالة ومن جديد تجيء فترة اخرى تصبح عنواناً لانبعاث بعد ركود. ان النكسة القائمة الآن في حياتنا الثقافية المعاصرة ليس مردها الى وجود بدائل حديثة (فضائيات، انترنت..) كما يدعي البعض، لان هذه البدائل ثمرة حقبة حضارية، ونحن كمتلقين لا بد ان نقول: ان الذي ليس عنده اصالة او هم سياسي او اجتماعي، لا بد ان تؤثر عليه هذه البدائل تأثيراً سلبياً، ولكن الامر يختلف من حيث المبدأ لان الظاهرة ذات ايحاء جديد، فكلما استجدت اشياء اثارت الحس واثارت التكامل، ولا اظن ان هذه اسباب عقم او اسباب الهاء او اسباب انصراف عن اي مجال من مجالات الثقافة اطلاقاً.
في رايي، كل ما استجد من هذه البدائل الحديثة اعتبره رصيداً للثقافة واداة تغذية لها لا ادوات احباط ابداً. ونحن نلاحظ في المجتمعات التي خلقت فيها هذه البدائل متفوقة ثقافياً. الفضائيات والانترنت قد تلهي الانسان غير المثقف، اما الانسان المثقف فلا بد ان يأخذ من كل حدث حديث وفي كل مستحدث تجربة جديدة.
ان التغيرات التي حدثت منذ منتصف القرن التاسع عشر والى الآن، هي التي حركت الابداع في الفعل الثقافي الجديد ومدت افاق الكتّاب في فترات الانحطاط. كان هناك كتّاب مبدعون، وهؤلاء شكلوا في فترات الانحطاط عنصر الانبعاث والنهضة الجديدة التي كانت رد الفعل على النكسات، لأن الابداع في الفعل الثقافي مواكب للحياة الاجتماعية والسياسيةومتأثر بها، والسقوط الثقافي هو نتيجة السقوط الاجتماعي والسياسي. وعليه لا بد من عود حميد الى نقطة البدء حيث المرجعيات التي تتحرك الى قدرها، فالحياة تتغير نعم، ولكن وفق نواميس وتجري الى مستقر معلوم وفق قدر معلوم.
ان الابداع او الفعل الابداعي لا حدود له. نعم، ولكن بشرط ان يظل ابداعاً ولا ينعتق من حدود الابداع الى حيث فضاء العدم والعبث.
[email protected]

أحدث المقالات