لا تتعارض الإنسانية بمفهومها الواسع مع الحب وجدانًا و سلوكًا إن لم نقل أن الإنسانية هي الحب والحب هو الإنسانية ، وأيُّ قيمةٍ أو معنى يبقى لها حين تُجرد من هذا العنوان الملائكي ، ومن الطبيعي أن يُعزِّز الدين الجانبَ الإنساني في سلوك الفرد وينميه من خلال روافدٍ متعددة ، يقف الحب شامخا بينها وكأنه الرافد الأكبر بين كل الروافد الأخرى . ومع كل هذا يبقى لنا الحق في الاستفهام عن طبيعة هذا الحب وبيئته وحدوده ؛ أوَ يكون أيّما حب مساوقا للدين ونظيرًا له ، بمعنى أينما يوجد يكون مع الدين ؟
حديثنا عن مفهوم ( الحب ) ليس بوصفه ميلاً إنسانيا أو شعورًا عاطفيًا تجاه شخص أو مبدأ أو انتماء ، بقدر ما هو عنوان يحفز و ينمي الواعز الإنساني لدى الفرد ويحرك فيه السلوك تجاه فعل الخير لنفسه و للآخرين ، لأن الأخذ بمفهوم ( الحب ) بحسب المعنى الأول ( العاطفة المجردة من انتماء واع ) لا يجعله بالضرورة متضامنا مع الدين تحت إطارٍ واحد ليكون صورةً عنه ، وقد حكى لنا التأريخ في أشد صفحاته السوداء ظلمةً ما صدر عن أهل الكوفة في ادعائهم لحب تجاه الإمام الحسين ( عليه السلام )بمقولتهم المشهورة ((قلوبنا معك وسيوفنا عليك )) (2) ،لكن النتيجة أن حبهم لم ينفعهم في صراع القيم و المباديء بعد أن وقع ضحية المصالح وحب الدنيا ، لذلك لابد أن بكون مرادنا من الحب هو المعنى الثاني له ( المعنى الحركي ) وإلا مالت بنا الريح حيث تريد وكنا منساقين معها خلف أهوائنا ومصالحنا ؛ لأن هذا المعنى هو الذي يحرك الدين في القلوب ويجعل منه جذوةً تنير الطريق ، فيكون عاملا لجذب الناس إليه ، فالحب هو مبدأ الدين ومنتهاه ، ولا زلنا نقول أي حبٍ هذا ليكون الدين نفسه ؟
وحين نعرض حديثنا الذي ابتدأنا به كلامنا ( وهل الدين إلا الحب ) على القرآن يكون للموضوع طعمٌ مختلف وحياةٌ جديدة بها تحيا القلوب وتشرأب إليها مكامن النفس نحو الحقيقة الناصعة ، فالقرآن الكريم يوافق على أن يكون الحب هو الدين لكن بقيد يوضحه قوله تعالى (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) آل عمران : 31 ، فالحب هنا يخرج من إطار الشعور و الإحساس الوجداني و العاطفة المجردة إلى دائرة الحركة و العمل ، والإلتزام التام بما يثبت صدوره عن الرسول ، فهو مقيد باتباع الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فإذا ما تم ذلك بلغ به صاحبه أسمى درجات الحب وأرقاها وأشرفها ألا هو ( الحب الإلهي ) وماذا بعده إلا ( الجنة ) ، وهذا يعني أن القرآن وبحسب هذه الرؤية يؤيد المعنى الثاني المتسم بالطابع الحركي المتجسد في سلوك الفرد ، والآية الكريمة ليست مؤيدة لهذا المعنى فحسب بل هي قاطعة لهذه الدلالة فيه ، لاسيما وأنها جعلت الحب مفهوما تبادليا بين العاشق و المعشوق لأجل تحقيق الإنشداد وحصول عملية الجذب نحو فعل الخير و إلا كان حبًا من طرفٍ واحد ، فمع تحقق الفرض الأول من العاشق ( تحبون الله ) المقيد بقيد الاتباع ( فاتبعوني ) تحصل النتيجة المرجوة ( يحببكم الله ) فيتم تبادل الحب مع المعشوق الحقيقي .
وهذا المعنى القرآني لمفهوم الحب وفقا لهذه الرؤية يوضح لنا الحديث المشهور الذي تلاقفته الألسن وتداولته القلوب إلا أن العقول حارت في فهمه الفهم الحقيقي الذي ينسجم مع مقولة ( وهل الدين إلا الحب ) ألا هو حديث ( حب علي حسنة لا تضر معها سيئة ) (3) فقد وُضعت على دلالته علامات استفهام متعددة ، ذهبت بالبعض إلى التطرف في معنى الحب ليصلوا به إلى جنان الخلد دون كد أو تعب ، بعد أن فهمته فهما ساذجا بحسب المعنى الأول ووقفت عنده .
إلا أننا هنا وبعد العرض على القرآن الكريم كما أمرنا الرسول الكريم بعرض ما يرد من أحاديث تنسب إليه على مفاهيم القرآن ( 4 ) لم نعد نرتضي هذا المعنى للحب مالم يتحقق فيه القيد المذكور ( اتباع الرسول ) ، فإذا كان الحب الإلهي مقيد باتباع الرسول فما بالك بحب الإمام علي وهو متفرع عن هذا الحب وفي طوله ، وهذا يعني أن الدين كل الدين هو حب علي بن ابي طالب ، لكن أي حب ؟ ذلك الحب الذي يُلزم من يدعيه أن يتابع الرسول في منهجيته وسيرته المباركة ، وإلا كان حباً من طرف واحد ، لكونه لايتجاوز دائرة الإدعاء به ، فما قيمة حب لايبادلنا الحبيب فيه ما نرجوه منه بأن يحبنا و يتوجه إلينا برحمته .
ولم يكتف القرآن الكريم بأن طرح هذا المعنى الحركي لمفهوم الحب مجردا عن مصداقه القرآني ليمنح مفاهيمه الخروج من دائرة المثالية و التنظير إلى حيث الواقعية و الشهود ، وليكون حجة على كل من يدعي الحب الإلهي ؛ قال تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) – المائدة : 54
فإن وجود أناس ( يحبهم الله ) و ( يبادلونه الحب باتباع سنة رسوله ) كفيلٌ بأن يكون حجة على الذين آمنوا ومانع لهم من الارتداد في الدين ، فها هم أولياء الله فلنقتدِ بهم .
وبهذا الفهم القرآني وفق منهجية العرض على القرآن تبين لنا معنى الحب الذي أراده الإمام الصادق ( عليه السلام ) وكيف أنه يمثل الدين كلَّه ، وهو حينما يبدأ من الشعور و العاطفة والميل و الرغبة لكنه لايقف عندها وإنما لتدفعه تلك العاطفة المتوهجة والوجدان المتلهب والرغبة الجامحة نحو الحب في الله و البغض في الله فإنها من أوثق عرى الإيمان (5) ، وحينما يكون هذا الحب في نفوسنا نقف على حقيقة الإسلام التي حاولت بعض الأطراف تشويهها بأنه دين الإنسانية و الرحمة الإلهية ، وأن كل ما يخرج من تصرفاتٍ و سلوكيات ممن يدعون الانتساب إليه من الدواعش و التكفريين ما هي إلا سلوكيات غريبة و منحرفة عن المفاهيم الإسلامية و الأصول القرآنية ، وأن ما يدعو إليه الدين الإسلامي الأصيل هو الانفتاح على الآخرين والتعايش معهم مهما كان عنوانهم الانتمائي والإطار الحضاري الذي يبرز هويتهم ، لأن ديننا علمنا أن البشر صنفان : أم أخ في الدين أو نظير في الخلق .
-ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-هذا نص حديث للإمام الصادق (عليه السلام ) / ميزان الحكمة : الريشهري – 3/307 .
2-الإرشاد : للمُفيد – 218.
3-أخرج موفق بن أحمد الخوارزمي: عن أنس بن مالك رضى الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: حب على حسنة لا تضر معها سيئة، بغضه سيئة لا تنفع معها حسنة.: ينظر ينابيع المودة ( القندوزي الحنفي ) : 1/ 322 4-كان لنا مقالة بعنوان ( إشكالية المنهج في قراءة العقيدة ) تأصيل لمنهج العرض على القرآن : بحسب الرواية المشهورة (قال: (اذا جاءكم عني حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط) ينظر : تفسير التبيان في تفسير القرآن : الطوسي : 1/4 ، و تفسير أبي الفتوح 3: 392 باختلاف يسير.
5- عن أبي عبدالله عليه السلام قال: من أوثق عرى الايمان أن تحب في الله وتبغض في الله، وتعطي في الله، وتمنع في الله : ينظر الكافي / للكليني : 2/183 ، و سير أعلام النبلاء / الذهبي : 7/379 .