يُعتبر التاريخ ، أفضل مدرسة تربوية تعليمية مجانية يمكن أن يتعلم منها القادة السياسيون دروسا يفيدون بها شعوبهم وأوطانهم ، ويجنبونهم المآسي والويلات التي تعرّض لها ولا زال الجنس البشري على أيدي بعضُ الحكام الطُغاة عبر التاريخ القديم والحديث ، حيثُ يديرون ظهورهم الى دروس التاريخ وتجارب الآخرين . وهذا هو حال جميع قادتنا السياسيين بدون إسشتثناء في أوطاننا المشرقية ، سواء كانوا حُكاما لازالوا قابعين على رأس السلطة ، أم مُعارضون يسعون بلهفة للوصول الى تلك السلطة ؟؟ جميعهم يتهربون من الدروس ولا يريدون أن يتعلموا شيئا . علما إن الفشل في تعلم الدروس من التاريخ يفرز ثلاث نتائج مدمرة لأوطان وشعوب المنطقة .
النتيجة الأولى : تعزز إقامة أنظمة حكم إسلامية على انقاض الانظمة الدكتاتورية الحاكمة في المنطقة الممتدة من أقصى باكستان وأفغانستان في الشرق الى أقصى الجزائر والمراكش في الغرب .
والنتيجة الثانية : تفتيت المنطقة وتقسيمها الى دويلات وإمارات طائفية متنازعة ، يتزعمها قطبان إسلاميان رئيسيان متنافران ، القطب السني ، وتقوده السعودية وتركيا وقطر ومصر … والقطب الشيعي ، تقوده إيران وحلفائها في المنطقة كنظام الحكم الطائفي الشيعي الحاكم في العراق اليوم , وحزب الله الشيعي في لبنان ، ومعهم النظام الحاكم في سوريا اليوم ، ليبقى الصراع مستمرا بين الشيعة والسُنة ، مادام الإسلام السياسي هو الذي سيحكم المنطقة في المستقبل القريب .
النتيجة الثالثة : وهي الأسوأ على الإطلاق والتي تقضي بإنهاء الوجود المسيحي في هذه المنطقة لصالح الإسلام السياسي . ولا نكشف سرا إن قلنا إن الوجود المسيحي في المنطقة قد تقلص وإنحسر خلال الأربعون سنة الماضية أضعاف تقلصه وإنحساره خلال القرنين الماضيين ، والحبل على الجرار . فقد إخترنا من التاريخ القديم هذا الدرس لَعَلَّى وعَسَى يتعظ قادتنا السياسيون ويتعلموا شيئا يفيد شعوبهم وأوطانهم.
يحكي لنا التاريخ انه بعد موت الملك سليمان بن داود ملك إسرائيل، إستلم زمام المُلِكْ من بعده إبنه رَحُبْعامُ ، وقرَّر الأخير الذهاب إلى مدينة شكيمَ حَيثُ اَجتَمَعَ كُلُّ شَعبِ إِسرائيلَ ليُبايعوه وينصبوه ملكا عليهم. وكان من بين المجتمعين يَرُبْعامُ بنُ ناباطَ، الذي كان عَبْدٌ لِسُلَيْمَانَ. وَاسْمُ أُمِّهِ صَرُوعَةُ ، وكانَ مُقيمًا بمِصْرَ هرَبًا مِنْ سُليمانَ، فرَجعَ مِنْ هُناكَ بِدَعوَةٍ مِنْ بَني إِسرائيلَ. ثُمَ جاؤوا جميعًا إلى رَحُبعامَ مُطالبين بإجراء بعض الإصلاحات ومنحهم بعض الحرية التي منعها عليهم والده الملك سليمان وقالوا لَه:
أبوكَ ثَقَّلَ نيرَهُ علَينا، فخفِّفِ الآنَ مِنْ نيرِهِ الثَّقيلِ ومِنْ عُبوديَّتِهِ الشَّاقَّةِ، فنَخدُمَكَ ونكون لك من المطيعين. لكن رَحُبعامَ قالَ لهُم: إذهَبوا ثُمَ عودوا إليَّ بَعدَ ثَلاثَةِ أيّامِ ريثما أدرس الموضوع وأناقشه مع المستشارين ورجال العلم والقانون. فقام المَلِكُ رَحُبعامُ في الحال وشاوَرَ الشُّيوخ الذينَ كانوا يُعاوِنونَ سُليمانَ أباهُ في حياتِه وقالَ لهُم:
بِأيِّ جوابٍ تَنصَحونَني أن أجيب لِهذا الشَّعبِ الذي يُطالبني برفع النير الثقيل عن كاحلهم وتحريرهم من العبودية الشاقة التي وضعهم فيها والدي الملك سليمان؟
فأجابوه: سيدي الملك ، عشتَ الى الأبد ، إذا ترأفتَ بهم وإجبتَ لمطالبهم الشرعية اليوم وخدمتهم في هذا اليومَ ووافَقْتَهُم واَستَجبْتَ لهُم وكلَّمْتَهُم بِلُطْفٍ وإستحسان ومسؤولية ، فسيكونوا لكَ خدَّامًا كُلَ أيام حكمك.
لم يجيب الملك رحبعام بشيء، لأنه كما يبدوا لم تعجبه إستشارتهم وأراد أن يُوسع أستشاراته مع الآخرين ، فتَرَكَ رَحُبعامُ نصيحةَ الشُّيوخ وشاوَرَ الفِتيانَ الذينَ من جيله ونشَأوا معَهُ وكانوا يَخدِمونَه، وقالَ لهُم أيها الشباب ، لقد نشأنا معا ، وكنتم تخدمونني لفترة طويلة ، والآن جئتُ اليكم لأطلب مشورتكم في كيفية التعاطي مع خَدَمنُا الذين يطالبونني بتخفيف ثقل النير الذي فرضه عليهم والدي . فبِماذا تَنصَحونَني أنتُم في هذه المسألة ؟ وكيفَ أُجيبُ هذا الشَّعبَ الذي طالبني قائلا: خفِّفْ مِنْ نيرِ أبيكَ علَينا؟
فأجابَهُ الفتيانُ بما كان يتمنى ويريده الملك رحبعام وقالوا له: قُلْ لهُم إنَّ خنصَري أغلَظُ مِنْ خصْرِ أبي. فهو حَمَّلَكُم نيرًا ثقيلاً ، وأنا أزيدُ على نيرِكُم ثقلا أكبر. أبي أدَّبَكُم بِالسِّياطِ ، وأنا أُؤدِّبُكُم بِسياطٍ شَوكيَّةٍ موجعة أكثر.
هذا ماكان الملك رحبعام يريد سماعه وليس نصيحة الشيوخ الذين نصحوه بحكمة لما يملكون من خبرة جيدة في سياسة حكم الشعب.
وعادَ يَرُبعامُ وجميعُ الشَّعبِ إلى الإجتماع مع المَلِكِ رَحُبعامَ في اليومِ الثَّالِثِ كما طلب منهم. فغضّ المَلِكُ النظر في نصيحةَ الشُّيوخ ، وإختار نصيحة الشباب ليُكلّم الشُعبَ المطالب بتخفيف الثقل عليهم . فوقف أمام الشعب ،وبِكلامِ جافٍ كما نصَحَهُ الفِتيانُ قالَ لهُم:
إذا كانَ أبي قد ثَقَّلَ نيرَكُم ، فأنا لن أكون أقل منه قسوة في التعامل معكم ، بل سأزيدُ علَيهِ، فإذا كان أبي قَد أدَّبَكُم بِالسِّياطِ فإني لن أُؤدِّبُكُم إلا بِسياطٍ شَوكيَّةٍ أغلظ مِمَّ كان لدى أبي.
وهكذا لم يُعطي المَلِكُ آذنا صاغية لمطالب الشَّعبِ في التخفيف من نيرهم وتحقيق جزئا من مطالبهم. ولمَّا رأى جميعُ بَني إِسرائيلَ أنَّ المَلِكَ لم يسمَعْ لهُم، وليس بنيته أن يخفّف النير الذي وضعه أبيه عليهم ، بل سيزيده ثقلا ، فلذلك قالوا لَه محذرين على ماسيواجهه من عصيان الشعب له : أيها الملك عشتَ الى الابد ، ما لنا ولِبَيتِ داوُدَ، وما علاقَتُنا باَبْنِ يَسَّى؟ فعودوا إلى خيامِكُم يا بَني إِسرائيلَ، وإتركوا الملك وقصره ، وتمردوا على أوامره وقراراته، وليَتَدَبَّرْ بَيتُ داوُدَ أمرَهُ بنفسه ولن نخدمه بعد اليوم . ورَجع بَنو إِسرائيلَ إلى خيامِهِم، تارِكينَ رَحُبعامَ مَلِكًا على بَني إِسرائيلَ المُقيمينَ في مُدُنِ يَهوذا فقط.
ولما رأى المَلِكُ رَحُبعامُ جَدّية رفض الشعب له ولا يريدون أن يكون ملكا عليهم ، فسعى أن يُثنيهم عن قرارهم بإرساله أدورامَ المُوكَّلَ على أعمالِ السُّخرَةِ الى الشعب ليُقنعه بالعودة عن قراره في التمرد على أوامره ورفض خدمتة .
وما أن وصل موكل الملك أدورامَ الى خيم بنوا إسرائيل حتى إنتفض كامل الشعب وقام برَجمَهُ بِالحجارةِ حتى الموت. ولما وصل خبر مقتل أدورامَ موفده الى الشعب على أيدي المنتفضين حتى هرع رَحُبعامُ وصَعَدَ مُسرِعا الى مَركبَتَهُ خوفا من أن يلقى نفس المصير على أيدي الشعب الغاضب، وهربَ إلى أورُشليمَ.
وكان من نتيجتها إن تمَرَّدَتِ القبائِلُ الشَّمالِيَّةُ بكاملها على بَيتِ داوُدَ إلى هذا اليومِ. وعِندَما سَمِعَت القبائل بِرُجوعِ يَرُبعامَ مِنْ مِصْرَ، دعَتْهُ إلى اجتماعِ وأقامَتْهُ مَلِكًا علَيها، ولم يَتبَعْ بَيتَ داوُدَ إلاَ سِبطُ يَهوذا وحدَهُ. أما باقي الشعب فكان هو يختار حكامه بنفسه .
وهكذا يبقى النصر دائما حليف الشعوب في كل زمان ومكان.
1-راجع كتاب التوراة سفرالملوك الأولى ( الإصحاحين 11 و 12 )