الابتسامة.. هذه الفعالية الجسمانية ذات التأثير العجيب والساحر، هي ثاني فعالية يتعلمها الإنسان بالفطرة بعد البكاء، وهي ترافقنا منذ ولادتنا حتى خروجنا من دنيانا، كما أن الحكم والأمثال والأقوال التي تحثنا على التبسم كثيرة، وأكثر منها تلك التي تحذرنا من العبوس وتنهانا عن التجهم. والأمثلة على الأولى كثيرة، أولها قطعا الحديث الشريف: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”. كذلك من الحكم؛ “كثير من الأبواب المغلقة تفتحها ابتسامة”. وأخرى تقول: “إذا ابتسم المهزوم خسر المنتصر لذة الانتصار”. وبذا لم يعد لنا بد من استخدام لغة الابتسام مع الجميع، فهي لغة مشتركة بين بني آدم في كل الظروف وتحت شتى الضغوط، والابتسامة أسهل رد فعل نقوم به تجاه أفعال الآخرين، وهي أقرب طريق لبث السلام والوئام، ولمن يبحث عن الجمال فانها أرخص عملية تجميل، إذا علمنا انها لاتتطلب أكثر من تحريك سبع عضلات، فيما يقتضي التجهم والعبوس استخدام أكثر من أربعين عضلة من عضلات الوجه.
ولكن..! يبدو أن الابتسامة في مجتمعنا العراقي تتعرض الى عمليات اغتيال منظمة بين الفينة والأخرى، والمؤلم أنها تقيد عادة “ضد مجهول”، مع أن بإمكاننا تشخيص الفاعل لاسيما أنه غالبا مايكون (منا وبينا)، وبدل وضعه في قفص الاتهام ومحاسبته على جريمة الاغتيال، رحنا نتدافع على نصرته وتأييده وتشجيعه ووضعه موضع التحكم بابتساماتنا، وخولناه بقلبها أنّى منقلب يشاء، وهذا مانره جليا وواضحا في من تسيد فيما مضى -ومن يتسيد اليوم أيضا- مناصب الحكم الرفيعة في مرافئ البلد ومفاصله، بدءًا من المجالس المحلية في محافظاتنا، وصولا الى المجالس الثلاث في البلد، وعلى رأس قائمتها المجلس الذي يعد أكبر ممثل للشعب وهو مجلس النواب. فاعضاء هذه المجالس ورؤساؤها تسيدوا المشهد السياسي باختيارنا أول الأمر، ثم استحالت سيادتهم الى قيود وكبول وأصفاد مافتئنا نعاني منها، وما انفكوا يضيقون خناقها علينا. ويبدو أن هذه الحال ليست بجديدة على سكان وادي الرافدين، فقد عزا محللون نفسانيون وعلماء اجتماع نزعة الحزن عند العراقيين، الى طبيعة الحكم وسياسة الحكام الذين تعاقبوا عبر العصور على تولي زمام أمور البلد. ففي جنوب العراق وفراته الأوسط كانت نسبة كبيرة من السكان تقتات على مزاولة مهنة الفلاحة، فيما كانت الأراضي الشاسعة والحقول المترامية الأطراف، يمتلكها شخص واحد او عائلة بعينها، وكانت تدار إداريا بسياسة الإقطاع التي تسببت في مضيعة كثيرمن حقوق الفلاحين، فبات أغلبهم يعاني العوز والفاقة، وتولد إحساس بالاضطهاد لديهم، الأمر الذي فجر مكامن الحزن في نفوسهم، وبالتالي أفل نجم الابتسامة من على شفاههم، وهذا ماتبوح به أشعارهم بمفرداتها وصورها الموغلة في الحزن والبكاء، وكذلك طريقة غنائهم وشجوهم، حيث الأنين والتوجع والتأوه بترديدهم عبارات؛ (مالت بواجي ولطم روحي) او (صحت مظلوم مسكوم مكلوم خايب سايب يكلبي). والأمر ذاته في المناطق الصحراوية الغربية من العراق، إذ تحكمت قسوة الصحراء والقوانين القبلية والعشائرية البدوية في حياة الناس اليومية، فعانوا ماعانوه من شظف العيش، ووجد الحزن مرتعا ومربعا في نفوسهم ليحل بها الى يومنا هذا، وانعكس هذا على طبائعهم وطقوسهم وثقافتهم. وكما حال مناطق الوسط والجنوب.. كذا هو حال المحافظات الشمالية، فلو قلبنا صفحات التاريخ لوجدنا دواعي الحزن ومسبباته كثيرة لدى الأكراد العراقيين، مازالت بصماتها واضحة في فولكلورهم على الرغم من التغيير الذي حدث في الإقليم مؤخرا.
ماشدني للحديث عن الابتسامة وأسباب هجرتها عن العراقيين، عبارة قالها زميل لي قبل بضعة أعوام، وكان لها وقع في مسمعي كوقع السهم في الصميم، فبعد خضوعه الى عملية جراحية أجريت لعينيه في الهند، وامتثاله للشفاء وجه اليه الطبيب المعالج جملة نصائح، منها الحذر من الأتربة والإنارة الشديدة والسهر، إلا أن توصية واحدة وقفت عند زميلي -كما قال- موقف (البسمار بالعگده).. إذ قال: “ان كل توصيات الطبيب (مگدور عليها) إلا واحدة، حيث أوصاني بالابتعاد عن البكاء وذرف الدموع بغزارة، خشية على مقلة العين من تداعيات ومضاعفات لاتحمد عقباها.. فأثارت نصيحته هذه استغرابا وتساؤلا في نفسي -والكلام مازال لزميلي- ووجدتني أصرخ بوجهه -من حيث لاأدري- قائلا: “شلون..! عراقي وتريده مايبچي!!”.
اليوم، أخشى على عيني زميلي هذا فيما لو ظهرت نتائج التحقيق في جلسة استجواب وزير دفاعنا خالد العبيدي، فحتما هناك من المخفي مايُبكي الصخر ويذيب الحجر ويُذهب البصر، أرى أن يشبع زميلي ابتساما وضحكا قبل ظهور نتائج التحقيق، فساعتها سيردد؛
بكيت فما جفت دموعي من البكا
كأن عيوني خلفهن عيون
[email protected]