ظل السيد حسن نصر الله زمنا طويلا يناور ويراوغ وهو يحاول أن يداري تورط مسلحيه في القتال مع الديكتاتور وشبيحته ضد جماهير السوريين، رغم أن تظاهراتهم الشعبية كانت سلمية وعفوية ومطالبهم لا تتعدى العدل والحرية والكرامة.
ثم حين أجبرعنفُ النظام كثيرين من العسكريين على الانشقاق وحملوا السلاح لحماية المتظاهرين من رصاص الجيش والشبيحة، وحين تجرأت المقاومة على اقتحام حصون النظام في دمشق، وأصبحت قاب قوسين من قصر الرئاسة، وراحت التوابيت الملفوفة بأعلام حزب الله الصُفر تتقاطر على لبنان، وتنتشر على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، لم يجد السيد حسن نصر الله مفرا من الاعتراف بضلوع مقاتليه في سفك الدم السوري دفاعا عن نظام يعلم أكثر من سواه مدى دكتاتوريته وهمجيته وفساده. وكانت ذريعته الأقوى، يومها، لتبرير ذلك هي حماية مقام السيدة زينب من الوهابيين والتكفيريين والإرهابيين.
ورغم أن المفترض فيمن يضع على رأسه عمامة ألا يكذب فقد كذب (السيد) على ربه وعلى نفسه وحزبه والعالم، وعلى مقام السيدة زينب ذاته. فلم تكن جحافل حزبه تتواجد حول المقام وحده، بل كانت في كل ركن من سوريا كان ُيحاصَر فيه جيشُ النظام ويقترب من الهزيمة.
ثم كذب (السيد) مرة أخرى حين برر قتال شبيحته في القصير والقرى الحدودية السورية الأخرى بحماية الشيعة السوريين واللبنانيين المقيمين فيها.
وظل يكذب أيضا وهو يطلق صفة الجهاد والشهادة على قتلاه، وهو يعلم، وهوالسيد الفقيه المتظلع في أمور الدين، بأنهم غزاة لا يختلفون عن غيرهم من الآخرين الوافدين على سوريا من خارجها بدوافع طائفية أو عنصرية أو مصالح سياسية خاصة لا علاقة لها بالشيعة ولا بالسنة ولا بالدين.
ترى كيف يمكن أن يكون مجاهدا من أجل الحسين، والسيدة زينب، وتحت راية الإمام الغائب الذي سيعود ليملأ الأرض عدلا وقسطا كما مُلئت جورا وظلما، مسلحٌ جاهلٌ مُغررٌ به خدره (السيد) بخرافات ومبررات مُخادعة كاذبة وأمره بأن يعبر الحدود غازيا منازلَ آمنة في قرية آمنة في دولة كانت آمنة فيقتل رجالها ويغتصب نساءها وينسفها بعد ذلك، ولا يخاف الله ولا يستحي؟
كيف، إلى هذا الحد، تضيع الحدود بين الحلال والحرام، وبين الغزو والجهاد؟ وكيف يصير كتاب الله وأحاديث نبيه عرضة للشبهة والحيرة والضلال؟.
فبعد كل تدقيق، ووفق جميع المقاييس الدينية والدنيوية، يتأكد لنا أن قتال (مجاهدي) حزب الله إلى جانب شبيحة الأسد ضد أشقائهم السوريين لا يصح، لا شرعا ولا قانونا، ولا يمكن اعتباره عملا من أعمال الخير وجهادا في سبيل الله.
فشيعة سوريا، بحكم الشرائع السماوية والدنيوية كلها، مواطنون سوريون لا حق لأحد، كائنا من كان، في الوصاية عليهم من خارج الوطن السوري. والأهم من ذلك أن المعارضة السورية لا تقل حرصا على سلامة الطائفة الشيعة السورية وغيرها من الشرائح السورية الأخرى، بدافع وطني حقيقي، أو حتى من باب المراوغة السياسية طمعا في كسب أوسع ما يمكن من المواطنين السوريين لمقاومة الحاكم المستبد الذي طاول عبثه وفجوره الجميع. ثم إن المسلحين الذين يقاتلون النظام مواطنون سوريون شيعةٌ وسنة ومسيحيون ودروز وعلويون. أما المواقع المقدسة في السيدة زينب فكما هي عزيزة على الشيعة عزيزة أيضا على السُنة المعارضين.
ثم لو أجزنا اعتبار حزب الله قيِّما على شيعة سوريا لجاز لنا أن نقبل بأن يكون لسُنة العراق وسوريا ولبنان والبحرين والكويت واليمن أولياءُ من خارجها، ولأصبح مشروعا أن تدخل إسرائيل إلى لبنان وسوريا والعراق ومصر وتونس والمغرب لحماية اليهود فيها.
إن هذا المنطق الأعوج لا يمكن أن يكون صادرا عن بشر عاقل ونزيه يتقي الله ويخشى يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون. بل هو عمل من رجس المخابرات الأجنبية الخبيثة التي تتقصد أن تخلط الطين بالعجين.
فالظالم ظالم مهما كان دينه وطائفته وعرقه، ولا ينبغي لحزب يتمسح بـ (اسم الله) أن يعينه على قتل مواطنيه، حتى لو كان ذلك بأمر الولي الفقيه. فـ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
خصوصا وأن المتابعة الدقيقة المتأنية لممارسات الحكم (الطائفي) المتزمت في إيران، على امتداد أربعة عقود، ترينا العجب العجاب. فهو لم يعمل خيرا، لا مع شعبه ولا مع جيرانه ولا أخوته في الدين، إلا ما ندر وإلا ما كان يتفق وأهدافه البعيدة المُضمرة. فإن له في كل مدينة من مدن العراق ولبنان وفلسطين واليمن والسعودية والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة وسوريا ومصر والمغرب والسودان وأوربا وأميركا، آثارا دامية من أفعال الظلم والقتل وتدبير المؤامرات والتدخلات العابثة في حياة الملايين من أهلها، سالت وما تزال تسيل، بها وبسببها، دماءٌ بريئة، وذرُفت وما تزال تُذرف دموعٌ غزيرة من أمهات على أبنائهن، ومن زوجات على أزواجهن، ومن أطفال على آبائهم أو أمهاتهم، ودُفنت وتُدفن جثثٌ تحت الأنقاض، وتضطرب حياة الناس، وتتعثر السياسة، ويموت الاقتصاد، وينتعش الإرهاب، وتزدهر الجريمة.
سؤال مهم: كيف يمكن لرجل دين، تعتلي رأسَه عمامة السيادة والانتماء لرسول الله وحفيده الحسين، كخامنئي وحسن نصر الله، أن يضع رأسه ليلا على مخدة وينام ويداه تقطران دما من دماء آمنين وأبرياء؟
والآن، وقد اقترب موعد الضربة العسكرية الغربية لمراكز النظام، وبعد أن تسلل الروس وإلإيرانيون هاربين من المعركة تاركين بشار وحده يواجه المصير الأسود المنتظر، ماذا سيفعل حسن نصر الله ومجاهدوه البواسل؟ هل سيصمدون لقنابل البوارج القادمة من وراء البحار، أم يهربون قبل فوات الأوان؟
ويدور في أوساط السياسة الخامنئية والمالكية أن إيران نصحت حسن نصر الله بالانسحاب من سوريا مع أول طلائع الهجمة الأمريكية المقبلة. وأكثر من ذلك. فقد أكدت مصادر سورية عديدة أن طلائع مسلحي حزب الله بدأت تخلي مواقعها في دمشق أسوة بشبيحة النظام.
وأغلب الظن أن حسن نصر الله سيفعلها، مُجبرا، ويأمر بالهرب من سوريا، بحجة الانحناء للعاصفة، والاختباء إلى حين انجلاء دخان المعارك.
وأغلب الظن أيضا أنه سيُطل، بعد ذلك، على حشود مناصريه في الضاحية الجنوبية من بيروت، كما يفعل دائما، ليعلن عن انتصار حقه الإلهي على باطل الأمريكان والصهاينة والتكفيريين، ويقسم أغلظ الأيمان على الانتقام والرد، ولكن في الوقت والمكان المناسبين، وتنطلق التكبيرات الهادرة، ويلعلع الرصاص. ولن يجرؤ واحد من أقرب معاونيه على أن يهمس في أذنه بالحقيقة وهي أنه لم يقامر فقط بأرواح الكثيرين من مقاتليه في سوريا بل أسقط عن حزبه قناع المقاومة، وأثبت أنه ليس أكثر من مستودع سلاح إيراني مخبأ بثياب فلسطين.
ولعل أكبر الخسارات التي لا تعوض هي تلك التي لحقت بالطائفة الشيعية نفسها حين أحرجها وحملها عداوة عربٍ كثيرين هي ليست بحاجتها ولا تقدر عليها وعلى تفاعلاتها المحزنة.
سؤال. ماذا لو هرب حزب الله من سوريا وعاد إلى أقبيته في لبنان؟ هل سوف يسامحه السوريون ومحاكمُ العالم الحر على ما فعل في دمشق والقصير وحمص من قتل وحرق ونهب واغتصاب وترويع؟ وعفى الله عما سلف؟
سؤال آخر. إذا هرب حسن نصر الله من سوريا، وخابت توقعات نوري المالكي وسقط نظام الحليف، من سيحمي مقام السيدة زينب من صوارخ المهاجمين؟
وهل من الشهامة والشجاعة والثبات على المبدأ أن يفر مجاهدو حزب الله والحرس الثوري ومليشيات نوري المالكي (جماعة أبي الفضل العباس والوعد الصادق) وغيرهم ويتركوا مقام السيدة زينب دون حماية يواجه وحده صواريخ الكفرة الآتية من وراء البحار؟