-1-
من ثمرات التأمل في كتب التاريخ ، الإفادة من التجارب والوقوف على ما آلَ إليه مصير الطغاة من العواقب …
فالتاريخ حدّثنا :
( انّ عبد الملك بن مروان لمّا احتضر ، وكان قصره يُشرف على بَرَدَى، نظر الى غسّال يغسل الثيّاب فقال :
ليتني كنتُ مِثْلَ هذا الغسّال ،
أكتسب ما أعيش به يوماً بيوم ،
ولم ألِ الخلافة ،
وتمثل بقول أميّة بن أبي الصلت :
كلُّ حيٍّ وإنْ تطاول دهراً
آيلٌ أَمْرُهُ الى أنْ يزولا
ليتني كنتُ قَبْلَ ما قد بدا ليَ
في رؤوس الجبال أرعى الوعولا )
فلما بَلَغ ذلك أبا حازم – وهو من الزهّاد الوُعّاظ المعاصرين له – قال :
الحمد لله الذي جعلهم في وقت الموت يتمنون ما نحن فيه ، ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه )
الدميري /ج2/550
-2-
والسؤال الان :
لماذا يتمنى صاحب الصولجان ، والامبراطور الآمر الناهي لدولةٍ ممتدة الأطراف ملأى بالخزائن الوفيرة ، أنْ يكون عاملاً بسيطاً يأكل خبز يَوْمِهِ بكدّ يده ؟!
انّه كان في غمرةٍ من النشوة بالسلطة جعلته من المغرورين ، والناسين لما ينتظرهم من حساب الله … الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة الاّ أحصاها .
إنّ هذا الطاغوت ، الذي أرهب البلاد والعباد بطغيانه ، لم يكن يجرؤ أحد ان يقول له :
اتقِ الله ، خشية أنْ تضرب عنُقه .
ومن الذي يستطيع أنْ يُحصى ضحايا ظُلمِهِ وجبروتِه ؟!
ومن الذي يقوى على الاحاطة بمفردات اعتداءاته على حريات الناس وكراماتهم وممتلكاتهم ؟!!
إنَّ موبقة واحدة من موبقاته تكفي لاستقراره في الدرك الأسفل من النار ، وتلك هي تسليطه الحجّاج بن يوسف ، السفاح السفاك للدماء ، والمستهتر بالأرواح والمقدّسات والممتلكات ، والذي وصف نفسه فقال انه :
” حسود حقود “
انه كان من الجبارين الذين ساموا الناس ألوان العذاب .
سلّط عبد الملك بن موران الحجّاج الثقفي على الرقاب ليوّطدَ له الحُكم وليس مهما عنده، ما يُقترفه هذا الوالي الغشوم، من جرائم ومظالم ومفارقات، على كل الصعد وفي مختلف المجالات .
-3-
وسَكْرةُ السلطة تغشى الكثير من الحكّام على مدى الأيام .
ولو رُزق مَنْ تسلّط على العراقيين في السنوات الثمان العجاف الماضية ( 2006 – 2014) الصحوة التي تضعه وجها لوجه مع الأعداد الضخمة ممن سُقوا كؤوس الموت الزؤام في أيامه، وما حَلَّ بالبلد جراء انفراده بالسلطة، لتمنى انه لم يكن قد وُلد ..!
-4-
وكما ان لعبد الملك اخوانا يسيرون على نهجه في العدوان والطغيان ، كذلك هناك اخوان ” لابي حازم ” – وَهُمْ العلماء الورعون الواعون الذين نأوا بأنفسهم عن ان يكونوا فرائس للشهوات والغرائز والمطامع الدنيوية والفئوية والطائفية .
-5-
ان مواقف المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف ابتداءً باغلاقها الباب امام المسؤولين الفاشلين ، ومروراً باصدار التوجيهات رسمت خرائط النجاة والخروج من عنق الزجاجة ، وانتهاءً باصرارها على وجوب تسنم رئيس وزراء جديد مقاليد الحكم ، تكتب بأحرف من نُور .
-6-
وكاتب هذه السطور أصدر موسوعة العراق الجديد ، وقد طبع منها حتى الان تسعة عشر جزءً ، أرّخ فيها المرحلة بكل ما حفلت به من عجائب وغرائب .
واذا كان الموت مصير الكاتب، فانّ الكتاب لن يموت ، وسيبقى على مدى الايام ناطقاً بما حلّ بالوطن الحبيب من دمار رهيب ، ونهب فظيع ، وفساد اداري ومالي تصدّر قوائم الدول المعروفة بالفساد …
-7-
وقد يقال :
إنّ باب التوبة مفتوح أمام هؤلاء ، وانهم قد يلجون من هذا الباب ليعودوا الى السلامة والاستقامة …، فنقول :
إنّ باب التوبة لا يُلغي المظالم الاجتماعية بحال من الاحوال ، فهل سيوفق هؤلاء للخروج من عهدة ما تراكم في ذممهم من الدماء المسفوكة ظلماً ، والأموال المنتزعة من الناس بالجبر والأكراه ، وما أهدر من حقوق وكرامات ؟!
والجواب :
ان ذلك بعيد ، وبعيد للغاية ….
-8-
ليس للمنصب الكبير من قيمة الاّ بمقدار ما يُقدّم للدين والشعب والوطن من خدمة ، والاّ فان المبالغة في الامتيازات ، والمكاسب الشخصية ، والفئوية ، والعائلية ، والطائفية ، ستكون وبالاً على صاحبه .
وقد يدفع الثمن في الدنيا قبل الآخرة .