23 ديسمبر، 2024 10:35 ص

وليد الجادر..عشرون عاما بعد الرحيل

وليد الجادر..عشرون عاما بعد الرحيل

الى روح المرحوم البروفيسور الدكتور وليد محمود الجادر(8193-1994 ) الاستاذ في قسم الآثار بكلية الاداب في جامعة بغداد.
هل حقا مرت عشرون سنة على رحيلك يا ابا علي ؟ ولكني لا زلت اتذكر ابتسامتك وهي تملأ وجهك الحيوي وانت تستقبلني في مقهى الديبار في الحي اللاتيني مقابل متنزه اللوكسمبورغ في باريس عام 1966 وبيدك حقيبة الكتب والمظلة السوداء كي نذهب سوية الى قسم اللغة الروسية في جامعة باريس لمساعدتي في التسجيل هناك في قسم الدراسات العليا , ولا زلت اتذكر يا وليد كيف دعوتني لتناول طعام الغداء في المطعم الطلابي الاسلامي وسط دخان اللحم المشوي اللذيذ بعدئذ , // ولا زلت اتذكر كيف كنت تشرح لي – وانت تتوهج – اكتشافاتكم لمكتبة سبار قرب بغداد ضمن فريق قسم الآثار في كلية الاداب بجامعة بغداد والفرح يغمر روحك و قلبك وعقلك , هذه الاضافة الكبيرة والرائعة في تاريخ وادي الرافدين وحضاراته, والتي لو حققها غيرك لتحدث عنها ليلا ونهارا كما يقولون , ولكنك كنت صامتا , مثل كل العلماء الكبار لانك تتحلى بتواضعهم , وكنت تبتسم ليس الا وانت تمسح التراب عن تلك الرقم الطينية الخالدة في تاريخ الانسانية وتتحدث عنها بحب واعجاب و تأمل وانبهار وتقول لي – انظر يا ضياء كيف كان اجدادنا يعتنون بمكتباتهم العامة ويرتبونها على رفوف مستطيلة الشكل , وكم يبرهن هذا الاكتشاف على عمق حضارات وادي الرافدين ومساهماتهم في دراسة مختلف العلوم , وكان الفرح يتلامع في عينيك وانت تؤكد ان العالم سيتحدث عن هذا الاكتشاف , وان عمل فريق قسم الآثار في كلية الاداب بجامعة بغداد سيدخل بجدارة في سجلات مسيرة علوم التنقيب عن الآثار القديمة في العالم , // ولا زلت اتذكر كيف طرقت باب بيتي في الصباح الباكر مرة كي تسألني قبل ان تذهب الى الدوام عن جملة وردت في قصيدة ترجمتها ونشرتها في صفحة آفاق بجريدة الجمهورية وهذه الجملة هي – ( كنت استنشق الصباح ) لأن احد اصدقائك طلب منك ان تستفسر منٌي عن تلك الجملة التي كان معجبا بها , وطلبت منٌي ان اجيبك بسرعة لانك كنت مستعجلا كعادتك دائما , ولم استطع انا في ذلك الصباح المبكر ان اجيب عن سؤالك وبقيت ( فاغرا فاهي ) وانا انظر اليك مبتسما واحاول ان ادعوك – دون جدوى – لتناول الفطور معي اولا او شرب ( استكان جاي ) في الاقل , // ولا زلت اتذكريا وليد كيف كنت تجلس في مطار بغداد وانت تبكي بصمت بانتظار جثمان اخيك الفنان التشيكلي المبدع الكبير المرحوم د. خالد الجادر, وكيف كنت اقف بجانبك وانا عاجز حتى عن كلام المواساة محاولا كبح دموعي دون جدوى , // ولا زلت أتذكر فرحك العظيم وابتسامتك العريضة وانت تركض مسرعا لوضع اللمسات الاخيرة لافتتاح عرض لوحات خالد الجادر في معرضه الشامل في الذكرى الاولى لرحيله وسط حشود المثقفين العراقيين , والذي نظمته بمفردك وبجهودك الخاصة , وهو عرض تعجز مؤسسات كاملة عن تحقيقه بذلك المستوى الرفيع الذي استطعت ان تحققه نتيجة حبك العظيم لخالد وحماسك المدهش له واخلاصك المتناهي لذكراه والحفاظ على تراثه الفني الكبير, هذا التراث الذي فقد برحيلك واحدا من ابرز المحافظين عليه والمدافعين عنه والمتحمسين له امام الاجيال اللاحقة من العراقيين , والذين يكادون ان ينسوه وسط هذه الاجواء الرهيبة في عراقنا الجريح // ولا زلت أتذكر النقاش الحاد جدا في مجلس كلية الاداب في جامعة بغداد عندما طرح عميد الكلية الاستاذ الدكتور أحمد مطلوب ضرورة سحب السيارة من قسم الاثار و ( التي يتونس بها الدكتور وليد الجادر ذهابا وايابا الى تل اسود باسم الكلية , بينما الكلية بحاجة ماسة الى هذه السيارة ) , وكيف انبرى له رئيس قسم الاثار الاستاذ الدكتورغازي رجب رأسا وبحدة قائلا , ان هذا الكلام ليس صحيحا بالمرٌة , وان الدكتور وليد الجادر شخصية علمية مرموقة في القسم ويساهم بشكل كبير ومخلص في العملية العلمية للقسم في البحث والتنقيب عن آثار وادي الرافدين وان هذه السيارة تخدم تلك العملية العلمية المهمة والكبيرة من اجل تسجيل تاريخ الحضارات في وادي الرافدين , وانه يرفض تسليم السيارة للعمادة انطلاقا من الحفاظ على اداء هذه المهمة العلمية التي يقوم بها الدكتور وليد الجادر وبقية اعضاء الفريق العلمي من التدريسيين في القسم , واشتد النقاش الحاد بينهما لدرجة شديدة فترك العميد قاعة الاجتماع وقال انه سيستقيل من منصبه اذا لا يقدر ان يسحب سيارة من استاذ في قسم علمي في الكلية واجابه رئيس القسم انه ايضا سيستقيل من منصبه اذا لا يقدر ان يدافع عن استاذ يقوم بواجبه العلمي تجاه تاريخ وطنه , وبعد ان ترك العميد القاعة ساد الوجوم في الاجتماع , فبادر معاون العميد الدكتور أحمد مالك الفتيان لادارة الاجتماع وطلب قبل كل شئ من الجميع باسم العمادة ان يبقى الامر سرٌا بين كل الاعضاء وعدم تسريب ما حدث الى حين تسوية الموضوع لاحقا بعد ان تهدأ النفوس , وتعهد الجميع بذلك حفاظا على سمعة الكلية العلمية , على الرغم من ان معظم الاعضاء كانوا يؤيدون موقف رئيس القسم وعلميته ودفاعه الموضوعي عن الدكتور وليد الجادر ودوره البارز في عمل فريق القسم في عملية التنقيب عن آثار وادي الرافدين واهمية هذا العمل محليا وعالميا وكان معظم اعضاء المجلس في الواقع ضد موقف العميد واستهجنوا هذا الطرح غير الموضوعي له , وخرجنا من الاجتماع هذا وكنت انا غارقا في افكاري حول وليد الجادر ودوره الكبير في اعمال التنقيب وموقف رئيس قسمه المشرف تجاه عمله واخلاصه وعشقه لحضارات وادي الرافدين ,// ولا زلت اتذكر موقف وليد عندما اخبرته بان سلسلة ( بحوث مترجمة ) التي بدأت باصدارها مع زملاء لي في كلية اللغات قد اختارت كتابه المترجم بعنوان – ( الديانة عند البابلين ) لاعادة طبعه ضمن تلك السلسلة لاهميته العلمية ومكانته في تاريخ الفكر في وادي الرافدين , اذ رحب وليد بذلك رأسا وقال انه موافق على نشره دون شروط دعما لمشروعنا العلمي المذكور , ومع اننا لم نستطع – مع الاسف – تحقيق ذلك , الا ان موقفه الرائع ذاك منحنا الثقة وسط الاحباطات التي اصابتنا آنذاك ,// ولا زلت اتذكر عندما كنا في ضيافة وليد ببيته و سأله احدهم – هل انت يا وليد من الطائفة الفلانية ام الطائفة الفستانية ؟ فاجابه وليد رأسا وهو يبتسم – لماذا تهينني يا اخي وانت في بيتي ؟ فخجل ذاك الشخص واعتذر. آه يا ابا عليٌ كم نحتاج الى انفاسك الموضوعية الآن والى روحك المرحة و مواقفك العلمية و شجاعتك الصارمة و احكامك العادلة ووطنيتك الشفافة وعراقيتك الاصيلة…