عندما كنا صغارا، كان (استاد سلمان) معلم اللغة العربية ومرشد الصف يزقنا العلم زقا، ويزرع في نفوسنا من القيم أنبلها، ومن المبادئ أسماها، كان يربينا ويعلمنا في نفس الآن والآنية، ومن ضمن مازرعه فينا من تلك المبادئ ان الوحدة تولد القوة والغلبة على عواتي الدهر، وبعكسها التفكك فهو يفضي الى التشرذم والخور والضعف. ومازالت أصداء كلماته ترن الى اليوم في ناقوس ذاكرتنا. منها الآية الكريمة: “تعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان”. ومنها أيضا: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم”. ولم يفت (استاد سلمان) الاستشهاد بأيات شعر تعزيزا لفكرة الوحدة والتكاتف والتآزر، ولطالما قص علينا قصة معن بن زائدة وكيف كان يوصي أولاده بالتمسك بالوحدة، ويذكر لنا بيتي الشعر على مسامعنا دوما:
كونوا جميعا يابني إذا اعترى
خطب ولا تفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت أفرادا
لم نكن نعي مايقصده معلمنا بشكل واضح تماما، فقد كان جل اهتمامنا حفظ (المحفوظة) آنذاك، وأعظم غاياتنا نيل درجة (10/10)، لكن الذي حدث منذ ذلك الحين، ان فكرة معلمنا التي أراد إيصالها لنا وصلت بالتمام والكمال، وترسخت في أذهاننا والمبدأ الذي أنشأنا عليه طبع في تصورنا، وهو ان قوتنا تكمن في وحدتنا، وضعفنا ينتج عن تفرقنا وتشتتنا.
وكبرنا ومسك كل منا زمام أمر من الأمور الحياتية، على المستوى الشخصي والمستوى العام، أما الشخصي فهو على أقل تقدير زمام أسرة -صغيرة كانت أم كبيرة- ففي الحالتين كان ماعلمنا وأرشدنا عليه أستاذنا، شاخصا ودليلا ونهجا انتهجناه مع أفراد أسرنا. وأما العام فهو ما نمر به في أطر المجتمع التي نعيش داخلها، والتي نتعايش فيها مع من هم بمعيتنا في أركان المجتمع، سواء في السلم الوظيفي فنتدرج معهم فيه، أم في معترك الحياة العملية والقطاع الخاص خارج إطار المؤسسات الحكومية. وفي الحالتين لم يكن لنا غنى عن ذات المبدأ الذي تعلمناه.
الغريب الذي يحدث في مجتمعنا العراقي العريق، والذي له من خزين شخصيات تاريخية آلاف مثل معن بن زائدة، كما ان هناك آلافا أيضا مثل معلمنا القدير (استاد سلمان) أن مبدأ الاتحاد والتكاتف لم يتعلمه كثير من أبنائه، إذ هم ينأون عنه نأي الثرى عن الثريا، وبعيدون عن روح التآزر كل البعد كما في مثلنا: (بعيد اللبن عن وجه مرزوگ)، والمؤلم في هذا أن هؤلاء تبوأوا اليوم مناصب عليا في الدولة والحكومة، لهم فيها النهي والأمر واتخاذ القرار وصنعه والبت في شؤون البلاد والعباد. كما هم يمسكون دفة حكم البلد والتحكم في أرضه وما تحتها وما يسير فوقها وما ينبت عليها، وفي مائه ومايركد في قاعه ويسبح فيه ويطفو عليه, وبهوائه ومايحلق فيه. وهم في هذا وتلك وذاك لايتعاونون إلا على الإثم والعدوان، ويصدّون عن البر والتقوى. إذ تزدحم تصريحات مسؤولينا وساستنا دوما بكيل التهم على الآخر، وقذفه ونبذه وسبه، ورمي كرة الاهمال والتقصير والتلكؤ والتواطؤ والخيانة والفساد وسوء الإدارة في ساحته، وساحة كل فرد منهم في وادٍ، غير وادي العراق والعراقيين. فهل يرعوي ساستنا على مستوى أدائهم ما منوط بهم من مهام تجاه شعبهم؟ وهل يتعظون بحكاية هنا أو قصة هناك، كي يقوموا ما اعوج فيهم من سلوك، له آثار وخيمة على ملايين العباد؟.