23 ديسمبر، 2024 6:58 م

العراق ليس مجتمعا واحدا بل مجتمعات ؛ وكل مجتمع يختلف عن الاخر ، ويتميز بصفات لا توجد عند الاخر ، ولا توجد قواسم مشتركة كثيرة بين هذه المجتمعات ، ربما القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع هذه المجتمعات المتناقضة هو العراق ، الدولة غير المتجانسة التي انبثقت عن اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية في بداية القرن العشرين ، وهي احدى المساويء الكثيرة للمشروع الغربي في تقسيم منطقة الشرق الاوسط ، وقد يظن البعض خطأ ان ثمة نقاط التقاء تجتمع عليها تلك المجتمعات ، مثل ؛ الدين والوطنية والسيادة والدستور وغيرها ، ولكن اذا ما درسنا واقع المجتمعات العراقية المتعايشة وتاريخها منذ ان تأسست الدولة العراقية ، فاننا سرعان ما نتوصل الى زيف هذا الطرح الذي صاغته وايدته الانظمة القمعية المتعاقبة وقدمته عبر اعلامها الكاذب لتضليل العراقيين وابقائهم اطول فترة تحت سيطرتها القمعية ..اذا ظننا ان السني يلتقي في الدين مع الشيعي ، فاننا نخدع انفسنا ونخفي الاختلاف الكبير بينهما الذي وصل في كثير من الاحيان الى الاقتتال والحروب الطاحنة ، فالمعتقد الديني عند السنة العرب والكرد ليس كالمعتقد الديني عند الشيعة ، ويوجد بين الطرفين اختلاف جوهري يشمل جميع فروع واركان الدين الاسلامي ، ومن شدة اختلافهما اعتبرهما البعض دينين مستقلين ! ، صحيح ان الكرد يعتنقون المذهب السني ولكن ليس بالمفهوم الديني لدى العرب السنة الذين يحشرون الفكر القومي العنصري بالدين ، وخاصة لدى الاحزاب والحركات الاسلامية التي دأبت على خلط الاوراق والجمع بين الاسلام كدين شمولي ينهى عن العصبية والنعرات العنصرية وبين القومية العربية التي لها مساراتها ورؤاها السياسية والثقافية الخاصة ، ففي واحدة من الامثلة الحية على المنحى الشوفيني للاحزاب السنية العربية العراقية ، فقد اعترض الحزب الاسلامي العراقي الذي ينتمي الى حركة الاخوان المسلمين في العراق ، بشدة على تولي”جلال طالباني”رئيسا لجمهورية العراق عام 2006 لانه كردي فقط ، وقال النائب”اياد السامرائي”القيادي البارز في الحزب الاسلامي واحد اعضاء جبهة التوافق السنية انه (ينبغي ان تذهب رئاسة الجمهورية الى شخصية عربية) ، وعندما صوت اعضاء البرلمان لصالح”طالباني”، خرجت كتلة السنة العرب من القاعة احتجاجا على القرار !..

فاذا كان العراقيون لا يلتقون في الدين ، ويختلفون حوله ، كذلك لا يلتقون في”الوطنية”ايضا ، فمفهوم الوطنية عند الشيعة يختلف تماما عن مفهوم الوطنية عند السنة والكرد ، لكل واحد منهما وطنية خاصة يتغنى بها ويدافع عنها ، وقد اشرت الى ذلك من قبل وبينت انه لا يوجد اجماع على مفهوم واحد للوطنية في العراق ، وكثيرا ما استعملتها الانظمة السياسية والاحزاب القومية والاسلامية وروجت لها ورفعت شعارها من اجل تحقيق مكاسب مادية وسياسية توسعية ، استعملها نظام صدام حسين ضد الكرد واباد منهم الكثير ، وكذلك فعل “نوري المالكي”رغم انه كان طائفيا وينتهج سياسة طائفية بغيضة ، وكذلك الامر بالنسبة للفرقاء السياسيين الاخرين في الساحة السياسية ، فكل واحد منهم مرتبط بمنطقته وعشيرته وطائفته وملزم بالدفاع عنها ، فمنهم من يحمل لقب”التكريتي”او”الجبوري”او”الشمري”او”الفلوجي”او”بارزاني ؛ نسبة الى منطقة بارزان “او”العبادي”او”السيستاني”وغيرها من الالقاب التي تشير الى العشيرة او المنطقة ، فمن الطبيعي ان يتباين انتماء كل في وضع ن غير الممكن ان يلتقي اما ان يتفق الجميع على”وطنية”واحدة ، فهذا ضرب من الوهم والزيف .. وقد ادرك حكام العراق جيدا هذه الحقيقة وعرفوا ان ولاء العراقيين الاساسي للمنطقة او العشيرة والقبيلة اكثر من ولائهم للوطنية او الدين او الدستور او الديمقراطية ، ولا يمكن ان يخضعوا لهذه المفاهيم الا اذا اجبروا على ذلك بالقوة ، واخضعوا لها ، لذلك عمد الكثير من هؤلاء الحكام الى استعمال القوة والبطش لاجبارهم على الانتماء الى الوطن والوطنية بدل انتمائهم الى القبيلة او المنطقة ، وقد حاول”صدام حسين”جاهدا ان يزيل الالقاب عن العراقيين وسن من اجل ذلك قانونا ، ولكن سرعان ما فشلت محاولته وعاد العراقيون ثانية الى حمل الالقاب الدالة على المنطقة او العشيرة ..

كنا نأمل من النظام”الديمقراطي”الجديد ان يؤسس لمرحلة حضارية جديدة يتساوى فيها العراقيون جميعا بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية او العرقية المناطقية ، ويشعرون انهم فعلا ينتمون الى وطن واحد نافع بدل الانتماءات الكثيرة ، ولكن انشغال الحكام الجدد بتكريس الولاءات الطائفية والعرقية وعدم ايلائهم اي اهمية لترسيخ الثقافة الوطنية الحقيقية في المجتمعات العراقية ، جعل العراقيين يعودون بقوة الى قوقعتهم العشائرية

والقومية والمناطقية كنوع من الاحتماء من الخطر القادم على العراق نتيجة توجه النظام القائم نحو سياسة وطنية زائفة..