قليلون هم الذين لم يسمعوا بوكالة المخابرات المركزية الامريكية (C. I. A) لكن الذين يعرفون شيئاً عن وكالة الأمن القومي (N. S. A) هم ايضاً قليلون. مع ذلك، ان هذه الاخيرة هي اكبر مؤسسات التجسس الامريكية وأشدها خطراً. واذا اتخذنا الحجم والميزانية معياراً، فان وكالة الامن القومي خمسة اضعاف ما مخصص لوكالة المخابرات المركزية، وهي اكثر منها سرية، حتى ان الحكومة الامريكية رسمياً تنكر وجودها. فهي واحدة من اربعة اجهزة استخبارية امريكية لكنها اكثرها نفوذاً وفعالية، واكثرها سرية وغموضاً. فالامريكيون العاديون يعرفون الوكالات الثلاثة لكن واحداً فقط من كل عشرة آلاف امريكي سمع عن وكالة الأمن القومي او علم بوجودها، بعد ان اكتشف ان اتصالاته الهاتفية وشبكة النت الخاصة به موضوعة تحت رقابتها.
ومن دلائل التكتيم الشديد الذي يحيط بوكالة الامن القومي، ان تأسيسها لم يكن بقانون صدر عن الكونغرس، كما هم الحال بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية التي انشأها الكونغرس بموجب قانون الامن القومي لعام 1947، ولكن بموجب أمر تنفيذي سري صدر عن رئيس الولايات المتحدة في اوائل الخمسينيات.
كذلك، على خلاف وكالة المخابرات المركزية التي يجب ان يوافق الكونغرس على موازنتها السنوية، فان موازنة وكالة الامن القومي مدفونة (مخفية) في الموازنة العامة لوزارة الدفاع ولا يظهر في الموازنة العامة للدولة بند يخص شيئاً اسمه وكالة الامن القومي.
اما وظيفة وكالة الأمن القومي، فهي التجسس الالكتروني على العالم، بما في ذلك اعداء الولايات المتحدة واصدقاءها، حكومات واحزاب وشركات وافراد، وهي تعمل ذلك من خلال شبكة متطورة من محطات الاستماع (الانصات) توجد على الارض وفي البحار وفي الفضاء، وهي تصطاد في شبكتها العالمية هذه كل الاتصالات الدولية التي تستخدم امواج الاثير بما في ذلك الهواتف الارضية والمحمولة والفاكسات… ولاعطاء فكرة عن تنوع الاتصالات التي ترصدها (تصطادها) وكالة الامن القومي، نورد الامثلة التالية.
المكالمات الهاتفية بين سيارات الرؤوساء ومكاتبهم، البرقيات المشفرة بين قيادات الجيوش ووحداتها الميدانية في مختلف بلدان العالم، المكالمات الهاتفية بين البنوك في بلدان مختلفة، والمكالمات بين السفارات ووزارات خارجيتها.
ولا يقتصر هذا التجسس الاليكتروني على الاتصالات المفتوحة، لان وكالة الامن القومي تشمل جهازاً كبيراً من خبراء الشيفرة يعملون ليل نهار على فك رموز الشيفرة المستعملة في مختلف بلدان العالم في الاتصالات السرية. ويتم ذلك في مقر قيادة وكالة الأمن القومي الواقعة بضعة كيلومترات شمالي العاصمة واشنطن، والتي وصفها كاتب امريكي في كتابه المعنون (قصر الالغاز)*، بانها مدينة سرية مستترة كمعسكر للجيش اسمه (فورت ميد) في جنوب ولاية (ماريلاند) تحيط بها ثلاثة حواجز من الاسلاك الشائكة وغابة من كاميرات التلفزيون للمراقبة.
تعود حاجة الولايات المتحدة للتجسس الالكتروني الى فشل وكالة المخابرات المركزية (C.I.A) في عملية سرقة اسرار الدول المتطورة، خصوصاً (الرديكالية) منها، اي المناهضة لسياستها.
ويجمع الذين درسوا فعالية وكالة المخابرات المركزية على ان انجازاتها الرئيسية هي في تغلغل بلدان العالم الافريقي والاسيوي واللاتيني… وقدرتها من خلال عملائها على تدبير الاغتيالات والانقلابات عبر اختراقها للاحزاب السياسية والقيادات العسكرية والصحافة والتنظيمات الشعبية وتجنيد القوات المرتزقة لاغراض التلاعب بمصائر هذه البلدان.
وقد احرزت وكالة المخابرات المركزية العديد من الانجازات في هذا المجال، فهي التي دبرت اغتيال باتريس لومبا في الكونغو، وافشال انقلاب محمد مصدق في ايران، والانقلابات المتتالية في امريكا اللاتينية وآسيا وغيرها….
ومع ان وكالة المخابرات المركزية فشلت في عدد من المحاولات التي دبرتها ضد انظمة الحكم ، مثل محاولة غزو كوبا وانغولا… ومحاولاتها في اسقاط جمال عبد الناصر وصدام حسين قبل 9/ نيسان، الا ان فشلها الاساسي كان تجميع المعلومات من الاتحاد السوفيستي السابق وما بعد تفككه.
من هنا جاءت وكالة الامن القومي وشبكة التجسس الالكترونية للتعويض عن فشل وكالة المخابرات المركزية في تجميع المعلومات… لكنها نمت لتصبح الجهاز الرئيس للتجسس على العالم. وهي ترفد اجهزة التجسس الاخرى، مثل وكالة المخابرات المركزية، لتزيد قدرتها على صنع الاحداث خدمة لسياسة امريكا الخارجية.
ويجدر الذكر، ان الاتحاد السوفيتي السابق يعرف الكثير عن وكالة الامن القومي، اذ ان عدداً من العاملين فيها فروا الى الاتخاد السوفيتي حاملين معهم الكثير من اسرارها، بالاضافة الى ذلك، فقد استولت قوات كوريا الشمالية سنة 1968، على احدى سفن التجسس التابعة لوكالة الامن القومي واعتقلت كل طاقمها واستولت على اجهزتها، كما ان في الاتحاد السوفييتي السابق وكالة مماثلة لها تمتلك اسطولاً من قوارب الصيد المحشوة باجهزة الاستماع الالكترونية تبحر باستمرار قرب المياه الاقليمية الامريكية وغيرها باستمرار.
اكثر ما يخشاه الامريكان المطلعين على اعمال وكالة الامن القومي هو قدرتها على الاستماع للاتصالات الداخلية وبالتالي قدرتها اللامتناهية على التجسس الداخلي.
ويعتقد البعض، ان وكالة الامن القومي تستمع فعلاً الى الاتصالات الداخلية التي تشتبه الدولة في مصدرها، ومصدر هذا التخوف هو ان الامر التنفيذي الذي انشأ وكالة الامن القومي لايحرَم التجسس الداخلي، كما يفعل القانون الذي انشأ وكالة المخابرات المركزية، كذلك فان الامر التنفيذي يعطي الوكالة حق الامتناع عن اعطاء اي معلومات عن نفسها، لدرجة انها حتى بضع سنوات خلت اعتبرت مجرد ذكر اسمها مخالفة قانونية، على عكس وكالة المخابرات المركزية التي يحق للكونغرس عبر لجنة خاصة استدعاء المسؤولين عنها واستجوابهم حول نشاطات الوكالة واموالها.
بقي القول: انه بالرغم من السرية الشديدة التي تحيط بوكالة الامن القومي، فهي تتعاون مع بعض اجهزة المخابرات الاجنبية، وذلك لانها تملك العديد من محطات التجسس الالكتروني في شتى انحاء العالم، فلها محطات رئيسية الآن في العراق، واسرائيل، وتركيا، والمغرب، ومصر، والمانيا، وبريطانيا، واستراليا، واليابان، والفلبين…
ومن المعروف انها على صلة وثيقة بالاستخبارات البريطانية، مع انه لا توجد معلومات اكيدة عن تعاون بينها وبين تل ابيب، الا ان النمط العام للعلاقات الامريكية- الاسرائيلية يدل على ان اسرائيل من اكبر المستفيدين من وكالة الامن القومي.
كذلك، لا بد وان اسرائيل تستفيد من يهود امريكا الذين يعملون في وكالة الامن القومي. ومن الدلائل على ان عدداً كبيراً من يهود امريكا يعملون في هذه الوكالة ، هي ارتفاع نسبة اليهود بين سكان جنوب ماريلاند، المنطقة التي توجد فيها المدينة السرية (قصر الالغاز) التي هي دماغ وكالة الامن القومي.
• James Banford- The Puzzle palace, a report on America’s most secret agency, 1982
[email protected]