18 ديسمبر، 2024 10:03 م

وقفة نقدية للتأمل (مع النظم الحسيني الشعبي لمحبّيه)

وقفة نقدية للتأمل (مع النظم الحسيني الشعبي لمحبّيه)

معنا قصيدة شعبية حسينية بنت هذه الأيام ممزوجة بأهزوجة معبرة ، ارسلها شيعي أعجمي متشوق الى زيارة العراق و كربلاء في عاشوراء ، تقرأ فيها معاني اللهفة والشوق والترقب ، والفرح والترصد الى لحظة الدخول ثم الوصول ، تجمع بين طياتها وصف الطقوس الحسينية الى مدح الكرم والتغني بالحفاوة التي ينالها الزائر الى أرض العراق ، لاتشك للحظة من الصدق المسيطر على الصور ان الشاعر قد زار تلك الارض مرة او مرارا فعاده اليها الحنين ، يقول :

چَنّي اسمع صوت من وادي الطّفوف ،،، حْسين للزوار فتّح بوبَه

كأنما أسمع صوتا من وادي كربلاء و ساحات الطّف ، وهذا ليس تشبيها في التصوير الشعبي و إنما تخيل و تمني بل ترجي وتصديق بالحدس والتفاؤل توفره العامية العراقية التي اختارها الشاعر لغة للقصيدة ، اذ ان من غرائب الشعر الحسيني العامي انه لايكاد يستساغ -فضلا عن ان يؤثر وجدانيا- ان لم يكن باللهجة العراقية ، لذا ترى ان الشعراء المبرٌزين في هذا الميدان اما ان يكونوا من العراق أصلا او يتخذوا لغة اهله الدراجة في النظم سلما ، ف (چني) أي كانني في حلم لذيذ او تناهى الى سمعي خبر سعيد او تهيأ لي راجيا متفائلا ، ان الحسين بن علي شهيد الطف قد فتح ابوابه كعادته في مثل هذه الايام من كل عام لزائريه والقاصدين المحبين .

و زارع انصاره عْلى كل نقطة حدود ،،،، وتَذْكره باسم ال يطب مكتوبة

و قد وزع اتباعه على النقاط الحدودية لأراضي العراق ليستقبلوا ويضيفوا ويرحبوا ، بل انه ارسل معهم تذاكر وسمات للدخول قد خصصت كل واحدة منها لزائر باسمه وكنيته ، و ان كانوا ملايين ، وهذا المدح في الكرم بهذا التصوير تقصر عنه اللغة الفصحى وتحققه العامية بملامسة دقيقة لهذا العمق التعبيري المميز ،و (يطب) المضارع العامي بمعنى يدخل ، يعطي معنى الدوام والاستغراق جاء بمقام الاسم (الشخص الداخل)، ولجواز تسكين ال(عين) من (على) و دمجها ب(كل) فقد حقق الشاعر سلاسة الوزن الموسيقي دون اخلال ، يعرف ذلك من يتقن تلك اللهجة الجنوبية او يفهمها.

و فارش السفره على كبر العراق ،،،، و الصواني متلتلة ومصبوبة

و (على) هنا الأصلية الفصيحة المفتوحة العين ،و (السفره) بضم السين معروفة ، و هي مائدة الطعام الطويلة تكون من قماش او معدن او شبهه، تفرش بها الارض لتوضع فوقها الجّفان (الصواني) التي تحوي الطعام المخصص والذي يكون دسما غنيا باللحوم والرز والخبز كما يصنع في تلك الانحاء ، وتلك الصواني (متلتلة)-بتسكين الميم- كانها التلال من شدة امتلائها بالشهي من الطعام وقد فرشت على سعة ارض العراق كله (على كبر العراق) انتظارا للضيوف و فرحا بمقدمهم ، و ليس غريبا هذا عن كرم اهل تلك البلاد الذين اعتادوا ان ينصبوا :

و خيمه يم خيمه ومضيف بصف مضيف ،،،، والدلال مهدّره و منصوبه

خيما متجاورات متراصفات على امتداد الطرقات لعدة الضيافة ولأهل الرفادة حتى لايفصل بينهن فواصل ، فاذا رايت فاصلا بين خيمتين فانما هو مضيف للمتريحين من عناء السفر الذي تحتمه شروط الزيارة الحسينية التي يمشي فيها الزوار زرافات مئات الاميال قاطعين طرقا وسهولا ومنحدرات على أقدامهم وصولا الى ساحة كربلاء ، وفي كل تلك الخيام والمضايف دلال واوجار للقهوة طبخت على نيران هادئة (مهدرة) طلبا لأجود الطعم و افضل الاثر ارضاء للضيف و اعتناء براحته ، و اثافيها منصوبة على كل الطرقات.

و هلا بهالزاير هلا يصيح العراق ،،، وملگه محبوب بحضن محبوبه

والعراق كله (كناية عن أهله وكرمهم) ينادي بالجموع (اهلا وحيا الله) كل الزائرين ، ويبادر ضيوفه بالاحضان كما يفعل حبيب بلقاء محبوبه الذي افتقده سنين ، وليس كعادة ما يفعل مع الضيف صاحب الدار ، وهذا من المبالغة الناجحة في وصف الحفاوة.

جفِن مفروش وجفن تلگاه غطاك ،،،،، ومِلّتك من وين مو مطلوبه

وكما يقول العراقي في العادة لضيفه (لك عين غطاء وعين فراش) يقتبسها هذا الشاعر الواضح الخبرة بممدوحيه ولهجتهم وطبائعهم ، فيضمنها قصيدته برشاقة (جفن مفروش) واستبدل الجفن بالعين هنا وقد افلح فان الجفن انسب للفرش و التغطية من العين بكليتها و ادق تشبيها و اجمل استعارة ، ثم يضيف بتناغم يعزز وحدة البيت وسير القصيد (وملتك من وين؟ مو مطلوبة) فعند هؤلاء الكرام لا مسالة عن حسبك او نسبك او ملة قومك و لادينك ، اهلا بك ايما تكون ،

وچاي ابو السجاد و الگيمر يصيح ،،،،، وخبز حار تريگك الحبّوبه

و(شاي) لصانع مشهور اسمه ابو السجاد او ربما رمزيا للاشارة لكل كريم يصنع الشاي للزائرين ، ومعه القيمر (الگيمر) العراقي الشهير (قشطة حليب الجاموس) كإفطار صباحي ، وهنا لابد من الاشارة الى ان هذه المسيرة المشائية (المشيه) قد تستغرق اياما بلياليها بحسب منطقة القدوم و الانطلاق باتجاه كربلاء ان كان من داخل العراق او من خارجه ، ومع القيمر والشاي “وجبة الافطار الاغنى عراقيا” خبز حار من الدقيق تقدمه لك (الحبّوبة) وهو اسم الجَدّة عند اهل الجنوب ، وحيث ان جداتنا مازلن يخبزن الدقيق طازجا كل صباح للذته وذكاء رائحته ،و لأن محبة الجدة تدفعها لصنع الخبز لاهل بيتها على اشهى مايكون -وهم نائمون- من طيب نفس وبراعة يد ، فقد استعار الشاعر هذه اللفظة (الحبوبة) على انها كذلك لكل زائر ، فكانما هنّ جداتنا ونحن الغرباء في الاصل عن هذا البلد ، و قد صدق في تصوير “الحبوبات” الجنوبيات افضل تصوير ،

وگولو للزاير يجي وكلشي ببلاش ،،،، وعيب يدفع فلِس من جيوبه

و ابلغوا الزوار اننا في انتظار تشريفهم لنا و لايحسبوا حساب السفر او الطعام او المقام ، فلسنا كبقية مزارات البلدان ومحطاتهم ، فلن يدفع القادم الينا قرشا (فلس) واحدا من جيبه لقاء سفره ،

اليجي من النجف يتلگّاه علي ،،،، و علي دروب الجنة كلهن صوبه

و قد انتشر الادلاء الرفّاد على كل طريق يؤدي الى مقام ابي عبدالله ، وما أعظمهم من أدلاء مضيفين ، فمن يجعل النجف طريقا له فسيحظى برفادة علي كرم الله وجهه (اشارة الى مرقده الشريف) هناك ، و النجف درب الى كربلاء ، و عليّ كل دروب الجنة تتجه اليه ، فقد صار للزائر نجم يهديه و كريم يغنيه ، قبل ان يحط عند نجمه الاخير الذي جاء يزوره ويفتديه ،

اليجي من الحلّة على القاسم يفوت ،،،، الرضا والكاظم تعزب دروبه

و من يختار الحلة (بابل) وجهة للمرور الى ابي الاحرار الحسين فانه سينعم بلقاء الامام القاسم قبل ذلك ، حيث يكون من مضيّفيه الامام الرضا و الامام موسى الكاظم ، على طول دروب المسير ، ولك ان تتخيل ما احلاها من مسيرة ،

وابو فاضل على گنطرة السلام ،،،، يروي ماي الغيره من حبوبه

و الامام العباس بكنيته العراقية (أبو فاضل) على مفرق آخر ينتظر، لمن اختار (قنطرة السلام) طريقا للوصول ، ولم يفت الشاعر ان يصف العباس بصفته المعروفة (الغيرة والنخوة) اشارة الى موقفه مع اخيه الحسين عندما كر على القوم المحاربين ليسقيه شربة ماء لما شكى ابو عبد الله العطش اذ حيل بينه وبين الفرات ، فروى الحسين بكفّيه التي كان نصيبهما القطع على ايدي الظالّمين ، و (حبوبه) جمع ال (حب) قلّة الماء الكبيرة تصنع من الفخار تبرد الماء صيفا ، يقتنيها اهل العراق وغيرهم.

المذنب على الباب راح يلاكي جون،،،، يفرغ بسطل النفايه ذنوبه

و عندما يصل الزائر بعد هذا العناء سيجد (جون بن حوى) خادم اهل بيت الحسين ، فتنزع عنه ذنوبه-تعظيما لما سينال الزائر من حظوة الزيارة وحرارة اللقاء-من قبل المملوك فمابالك بالسيد.و (على) هنا مسكونة العين مرة اخرى ،
يتوقف الشاعر هنا اذ كان يلقي قصيدته المحبة هذه على جمع من متشوقي الزيارة في بلاده ، فيقول متمنيا (كون هذا التسجيل يوصل للعراق) و قد وصلنا فعلا و احتفي به .
اراد الشاعر ان يختم باهزوجة (زينب) كعادة هذا البناء الشعري ، لكنه حاد عن ذلك على ذكر الكرم و قد راى من مستمعيه اندهاشا ممن لم يزر العراق في عاشوراء من الشباب ، يخالطه تأييد من الكبار ممن جرب الزيارة الى تلك الربوع ، فأرتجل وصفا للعراقيين يقارن كرمهم فقال شارحا باسلوب مهوال:

وينك يل تعد باهل الكرم حاتم ،،، حاتم ماوصل جوده لجدر ماتم

وجدر الماتم (هو القدر الذي يعده خدام الحسين على الطرقات و في البيوت في ايام استذكار هذا (المأتم) العظيم ، ثم يكمل :

دوّر بالكرم لو ترد من آدم ،،،

و لو رجعت بحثت من آدم الى اليوم لن تجد كرما كهذا ، ثم ترديد الاهزوجة:
مليون بساعه يغدّونه

يعود شاعرنا لاستكمال قصيدته الوصفية المدحية الحسينية ، فيختمها بمقطع (نعاوي) ، ينتقل من الحفاوة بالكرم الى التفاخر بحياء نساء اهل ذلك المحمل الكريم ،

لاگه الشايله زينب تمشي وماتشيل الراس
لا ترفع السيدة زينب راسها حياء

خافن بالدرب تعثر ،،، ويسطر عينها العباس

و لو انها رات اي سواد يتحرك على الارض ، لجفلت وخبأت وجهها واستترت ،
ولو شافت سواد بعيد ،،، تجفل من عيون الناس
ثم (الهوسة)
ها ها ها ،،، وتگبع الهودج بالرايه
ولم اقع على اسم الشاعر للأسف ، وبعد فان تعازينا ومايسعدنا ومايغيظ عدانا وعدوه، ان ابا عبد الله الحسين في جنان الخلد مع جده والنبيين والشهداء والصديقين “وحسن اولئك رفيقا”