واقعة الغدير من الوقائع الفريدة في تاريخ الإسلام، فهذه الواقعة قد حددت مدرسة معينة ومنهجاً محدداً، في التعاطي مع قضية معتقدية غاية في الاهميّة والخطورة. لا بل واقعة الغدير، قد حددت مسار الاسلام كله وفق رؤية إلهيّة، تتبنى الامتداد الطبيعي لمنهج النبوة المتصل بخط الامامة العصمويّة. لتبقى نفحات الرسالة الاسلاميّة، مفعمة بالحيويّة والتجدد، معضّدة بالاصالة الرساليّة. ليحيا الاسلام على امتداد التاريخ، يافعاً نافعاً، دون ان تعتريه هنات الشيخوخة والعجز. فبمنهج الأئمّة لا يمكن للاسلام أنْ يتحول الى كومة من الاثار، أو ركاماً من التراث، يزيّن قاعات المتاحف العالميّة. أو يصبح مجموعة من التعاليم المقدسة، ضمن دائرة الماضي، و خارج منطقة الحاضر والمستقبل. أو يكون تحت وطأة كهنوتيّة الخرافة والشعوذة والدجل، حيث الوصول الى الجنة، عن طريق الاحزمة الناسفة والسيارات المفخخة.
إنّ يوم الغدير حدث إلهي، شاءت إرادة الخالق تعالى، أنْ تجعل به جذوة الإسلام منيرة، إلى يوم يبعثون. إنّ يوم الغدير لا يشكل حدثاً تاريخيّاً عابراً، وإنّما يشكل ركناً أساسيّاً من معتقد مدرسة أهل البيت(ع)، وهذا الاعتقاد ليس نابعاً عن حالة عاطفيّة، يتعاطاها جماعة من البشر، متأثرة بفيوضات روحيّة، أو انشدادات عاطفيّة، تعبّرعن مشاعر شخصيّة، تجيْش حناناً وشوقاً لرموز أسطوريّة، قدستها العقليّة الماضية للآباء، وانتقلت بعد ذلك الى الأبناء. هذه ليست مشاعر غير مسيطر عليها، (كما يتصور البعض)، وأنّها تنبع من حالة الشعور بالمظلوميّة، على امتداد التاريخ الشيعي، الذي عانى من الظلم والتعسف والاجحاف، والتي تحتاج إلى صمام أمان، يُمَنّي النفوس بأحقيّة القضيّة، ليكون بمثابة البلسم المُسَكّن لألم الازواء والاقصاء والابعاد، عن ساحة التجربة وميدان العمل.
هذه الارهاصات والشعور بالظلم قد تجعل المُحبّ، يميل ميلاً عاطفياً ملحوظاً، بالتشبث باساطير تاريخيّة (كما هي الحالة عند اليهود، الذين يجعلون من السبي البابلي رمزاً لشتاتهم وضياعهم بين الشعوب والأمم، الأمر الذي يجعلهم يعتقدون بأنّهم فقدوا الكثير من خصوصياتهم التاريخية).
إنّ الأمر ليس بهذا المستوى من التفكير الساذج على الاطلاق. فإنّ الاعتقاد الراسخ بهذه القضيّة الرساليّة (قضية واقعة الغدير)، له جذوره الواقعيّة، التي تستند إلى صلب الوقائع التاريخيّة الصحيحة، والتي أجمع على صحتها جميع رواة الحديث، في الصدر الأوّل من الاسلام. لا بلّ نجزم متأكدين، بأنْ لا توجد واقعة تاريخيّة كواقعة الغدير، أجمع عليها المسلمون، وتعدّدت مصادر روايتها. فقد أحصى وضبط العلامة الجليل، الشيخ عبد الحسين احمد الاميني النجفي (قدس سره)، في موسوعته الجليلة، التي ضمّها (كتاب الغدير)، باجزاءه الأحد عشر، حيث ذكر مائة وعشرة، من الصحابة، الذين رووا حديث واقعة الغدير بطرق مختلفة، وكذلك مثلهم من التابعين.
إنّ هكذا استفاضة واجماع، في مصادر حادثة تاريخيّة معيّنة، تخرجنا من كلّ دوائر الشكّ، التي يرسمها الظلمة المتغطرسون، في محاولاتهم لطمس الحقائق الناصعة، خوفاً على عروشهم من الانهيار، تحت مطارق الحقّ ومحاربة الظلمة. فإنّ مجرد الاعتراف بهذه الحقيقة، يزوي بشكل تلقائي، جميع العروش الظالمة والمنحرفة عن سدّة الرياسة، ويخضعها لمحاكمة التاريخ. ويعطي المبرر الشرعي للشّعوب الإسلاميّة، بأنّ جميع الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وما تخلل بين فترات حكم تلك الامبراطوريات، من سلاطين تتار وسلاجقة وفرس وعرب، وحتى يومنا هذا، هم حكام يأخذون شرعيتهم من الاسلام بصورة مزيفة، يفرضها مسلكهم باستخدام التعسف والجبروت والقوّة.
ففي الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام، من العام العاشر الهجري، جمع رسول الله (ص)، حجيج المسلمين الذين حجّوا معه حجّة الوداع، في منطقة غدير خمّ بمنطقة الجحفة، حيث منها تتفرق الطرق، إلى الأمصار والأقطار. فنزل عليه الأمين جبرائيل (ع)، مبلغاً قوله تعالى( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).
لقد قرن الله تعالى، أمر التبليغ بالولايّة لأمير المؤمنين(ع)، بأمر تبليغ الرسالة كلّها، باعتبار الإمامة هي الامتداد الطبيعي، لجوهر الرسالة الإسلامية. فمن الدروس المهمة لهذه الواقعة، أن المسلمين كلّهم، وكان عددهم يربو على المائة وعشرين الفاً، من مختلف بقاع أرض الاسلام، اجتمعوا كلّهم على كلمة واحدة، إمتثالاً لله تعالى ورسوله (ص). وبعد تبليغهم بأمر الولاية من المولى سبحانه، نزل قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً). ثمّ أمر النبي(ص) جميع الموجودين، بمصافحة أمير المؤمنين(ع) وتهنئته بالولاية الإلهية. فطفق الناس يهنئونه(ع)، وكان بمقدمة الصحابة الشيخان، أبو بكر وعمر(رض)، حيث قال الصحابي عمر بن الخطاب(رض)، كلمته الشهيرة، عندما دنا من أمير المؤمنين(ع) مهنئاً، فضرب على كتف أمير المؤمنين (ع)، غبطة و تعظيماً لهذا الشرف العظيم، وقال : (بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولانا و مولى المؤمنين).
إن هذا الدرس يعطينا فرصة كبيرة للتأملّ في واقعنا اليوم، لنجيب بأنفسنا عن تساؤل مهم، يجب علينا الإجابة عليه، هو:
هل ستنجح الأمّة الاسلاميّة عامّة، بالصمود بوجه المخططات المعادية للإسلام؟. هذه المخططات التي تقصد تفريق الكلمة، وشقّ وحدة الصفّ، عن طريق خداع البسطاء والجهلة، و تهويل الأمور وتضخيمها في أذهانهم الساذجة. وتصوير محبّي أهل البيّت (ع) على أنّهم كفرة وأهل ضلالة وأصحاب بدعة؟. ومن ثمّ تضخيم صدى أراجيفهم، التي هي أصلاً بدعة دخيلة على الإسلام وتاريخه، في أبواق الإعلام المأجورة للأعداء.
إنّ الإجابة على هذا التساؤل، يكمن بمقدار تحمّل الأمّة لمسؤليتها الرساليّة، أمام الله تعالى ورسوله الكريم (ص)، وأمام التاريخ والأجيال القادمة. فإزاء هذا الأمر الخطير، يجب أنْ تكون الإجابة:
سنبقى مع الله تعالى، نتشرف برسالة نبيّه الكريم (ص) و وصاياه الشريفة، حريصين على وحدتنا، تحت كلمة (لا إله إلاّ الله محمد رسول الله). وكلّ ذلك لا يكون إلاّ عندما تتوحد أفكارنا ومشاعرنا تحت لواء الحقّ، دون أنْ تؤثر فينا حميّة جاهليّة أو عصبيّة بغيضة، فيكون عيد الغدير للمسلمين جميعاً، مناسبة توحدنا كما وحدت الأمّة الاسلاميّة، تحت لواء رسول الله (ص).
[email protected]