23 ديسمبر، 2024 9:19 م

وقفة مع قصيدة ( قرداش ) للشاعر قيس مجيد المولى

وقفة مع قصيدة ( قرداش ) للشاعر قيس مجيد المولى

خطاطة ما وراء المؤولات الاظهارية
مقدما لابد لنا من القول ان الكتابة الشعرية اشبه بعملية
( محاصرة الذات ) بين بدأها وانتهائها حيث لا تملك الذات الشاعرة ازاء هذا ، سوى الديمومة امام احتمالية الخلاص من فكرة الخضوع لزمنها الخطي ، وازاء هذا ايضا ، تبدو هذه الذات احيانا ، متنكرة لدورها المتواصل إلى الغاء ذاتها ، والى الغاء حجم المسافة الكتابية في مجال كينونة الواقع الغير ممكن … واذا ابصرنا هذه الذات مرارا ، قد تراودنا مرات ، امكانية المساءلة والتمرد على صيغ لا تستطيع احتمالية اللحظة الشعرية عن الاجابة حولها ، لاسيما وان ديمومة التلقي داخل خرائطية موضوعة ( الموجود اللحظوي ) اضحت لتلك الذات الشاعرة مجرد ايهام في لحظة المكرور الباطني ، وعلى هذا التكيف اصبحت مهيمنة الكتابة ، استشعارا في البحث عن اجوبة الكيان المتجسد داخل حيثيات الذات الموجودة في لحظة الديمومة المتساءلة … في قصيدة ( قرداش ) للشاعر قيس مجيد المولى ، المنشورة من على صفحات ( الف ياء / صحيفة الزمان/ العدد 2455 / من تموز يوليو 2006 ) يلاحظ القارئ بان استخدامات الشاعر المولى لــ ( قصدية الدال ) قد جاءت ضمن تسميات فاعلية ( المداليل المتجزئة ) أي ان القارئ لهذه القصيدة ، لربما يشعر بمدى غموض افعال الذات وهي تنحو منحى نحويا لغويا ، تنقصه مهام كشوفية المدلول الاستدلالي ، فعلى سبيل المثال نعاين هذه المقاطع من مستهل عمر القصيدة الاولي :-

المحاضرات

التي ارادها

البارون

لم تطبع بعد

لاقف عند فصل

او افتراض

كلما وقع البصر

على دوائر

توزعت في السقوف

امتلئ

بما كتب عليها

واشك بما يقربني

من الدائرة الاخيرة …

لعل هذه المقاطع ، هي بمثابة المفاتيح التي سوف تقودنا إلى عوالم طلسم ( قرداش ) ويمكن ان نلاحظ بان بداية القصيدة لربما توحي بمعنى شفروي ما لاسيما وان عبارة

( المحاضرات التي ارادها البارون ) تلمح إلى مرشد كلمة ( البارون ) ثم إلى عبارة ( لم تطبع بعد ) أي ان هناك ثمة علائقية ما وراء صيغة المؤول الاظهاري ، وببساطة ما تكمن الاحجية بهكذا ترسيمة :- ( المحاضرات + لم تطبع بعد = التي ارادها + كلما وقع البصر = واشك بما يقربني = من الدوائر الاخيرة = البارون ) وقبل معاينة مدار التشظي ، ينبغي اولا تحديد منظور الشاعر للمنظومة الارسالية في كتابة القصيدة:- ( الرؤية / القصدية / المسافة المتخيلة ) وهل ان ثمة وسيط بين الشاعر والقصيدة ؟ ام ان بنية الروي القصدي هي كل ما في معنى اصداء الذات المتعددة ، ونحن لا نشك بهذا لاسيما وان الشاعر المولى قد سلك هكذا مجال : –

وبعد المحاضرات

التي ارادها البارون

اشك بما يقربني

من الدائرة الاخيرة

فيما وزعت النافورة

الاباء الطيبين

على المقاعد

قبل هذه السنين

امتلات كفي

بالالات النحاسية

و ( المصقول )

ولم تعد الاشياء

تشطح بالعموميات

والجسد ( بالبجامة )

وانا ارى

العصر القريب

ومنخاري النادل

واقول لنفسي

تاكد من المصطلح …

مؤكدا بان ثمة غطاء رمزي ما في لحظة هذه المقاطع لاسيما وان صورهذه التوصيفات مغرقة بــ ( اعلان الكارثة ) وسنلمس هذا بقوة في قول المولى : – ( فيما وزعت النافورة = الاباء الطيبين = امتلات كفي = بالالات النحاسية = ولم تعد الاشياء … ) هكذا لربما تتضح الصور بشكل ادق ، اذ تتجلى معاناة ( والجسد بالبجامة ) بكيفية استعارية يتداخل فيها واقع الجسد في صراعه مع المجاز الشعري وفي توتر درامية ( واقول لنفسي ) ومن خلال موازنة جدية بين لحظة الانفصال عن الحياة وبين ( وزعت النافورة الاباء ) ولا ننسى الزاوية الاخرى للمعنى الاسقاطي من الذات الشاعرة ( تاكد من المصطلح ) ان الطرح الذي تقدم به الشاعر المولى في قصيدة ( قرداش ) منسجم تماما مع مبادئ ( التداخل ما وراء الخارج ) أي ان عملية التزاوج مابين الحلم والموت واللحظة الغائبة ، باتت تشكل لنا ولكل قارئ للقصيدة

مسعى مغموسا بالسعي إلى العبور بالحلم الذي هو عنف التشكيل بين معاناة الفرد من ( صوفية الحرب ) وبين الرصد المخالف للمالوف المعنوي . واحيانا قليلة نجد الشاعر المولى يبدو مندفعا إلى الانتقال المفاجئ بدلا من التسلسل المنطقي في رسم عواطفه ، وهذا ينطبق على قول مثل هذا :-

قبل نومك

وما وضع في قيثارة

فرجيل

اشك

بما يقربني

من الدائرة الاخيرة

وقد فقدت البريد

في الحافلة

ليومي هذا …

هذا النوع من التوصيف لربما لانوافق عليه الشاعر المولى ، وخصوصا في ( قبل نومك .. وما وضع في قيثارة فرجيل .. اشك بما يقربني ) ان مثل هكذا قول لربما من شانه ان يقربنا من ايحائية معنى هو في جملته الكاملة فاقد لماهية ( الوصف / الموصوف به ) أي اننا لاتتسع اذهاننا لربط مفهومي ما يعنى بكيفية ربط دلالة ( قبل نومك / القيثارة ) بتوصيف صور وافكار ( وقد فقدت البريد / في الحافلة ليومي هذا ..) فانا لا اعرف في الواقع ما يريد ان يرمي اليه المولى ، من قول كهذا ، لاسيما وان دلالة ( الحافلة / فقدت البريد ) مجرد اشارات ورموز مفرغة من مضمونها العضوي ، وعلى اية حال ، لربما هذا من جهة ما ، توفرت به لحظة كتابة الشاعر التوصيفية للاشياء ، ومن المهم القول بان ( قيس المولى ) يزج احيانا بافعال واسماء واشارات في خانة اللامباشر من البوح ، بمعنى اخر ، ان الشاعر يصنع اشياء ويقوم بارسالها في غير مواضعها الملائمة احيانا ، وهذا كما في قوله :-

وهن على جدران المرمر

ها اني في تلك الدائة

ارى الاب على الجسر

اعادني

إلى الفكرة القديمة

في قبول الوزن …

فثمة تحول هنا ( كالنوم مؤقتا ) لتصبح ذات الاشياء ، ذاتا خيالية كصورة الاب الموصوفة بذلك انفا . ان وقوف الشاعر المولى في قصيدة ( قرداش ) يبدو وقوفا للذات مع صراع الاشكالية العرقية والعقيدية والسياسية ، اما ما وراء ذلك ، فتقف تصورات وخيالات الشاعر مع نفسه ، الموت اذن او التربص بالذات لاجل الموت هو ما يشغل ( هروب الذات ) من ذلك الوضع السائد في واقعة القصيدة .. اذن هو تصور الشاعر لشبح الموت وهو يتربص جسد ومصير ( ذلك الهيكل العظمي / ومخ

البارون / وتلك المحاضرات / التي لم تطبع بعد / سوى ما يتطاير فوق راسي / من رذاذ النفط لاسود / بقيتا اذناي في الالات النحاسية / ولساني في المصقول / غير مكترث بليلة الاربعين / وما يحل على جسدي من عقاب ..) من هذه الخاتمة الجبارة التي تستحق وقفة كبيرة من القارئ والناقد للبكاء احتفاءا منا بهذه الضربة الشعرية الكبيرة من لدن الشاعر المولى .. انها فعلا ( ليلة الاربعين ) حيث يموت زمن الفاعلية الوجودية ، ودون موت زمن العالم الباطني للذات الشعرية لدى المبدع المولى ، والتي بقيت ايضا في لمحة بصر تشكل شعورا مشاركا مع صرخة شعور الذات الشعرية بحلول موعد العقاب الشعري الكبير .. وختاما منا اود ان اقول شيئا بخصوص قصيدة ( قرداش ) وبخصوص ايضا :- بان الممارسة الشعرية في داخل بنية قصيدة الشاعر ليس بوسيلة دحض لصراع خارجي يواجه الذات ، بقدر ماهية وسيلة اسناد اراد من خلالها الشاعرالوصول إلى معادلة توافقية مضمونية تشتمل على كل ما هو مناسب لتحقيق وحدة عضوية في بنية خطاب الافكار بطريقة معقدة وممثلة بخليط من المجازات التي يراد منها نقل شعورا ذاتيا خاصا ، فثمة هناك ايقاعية توصيفية خاصة في رسم مزاجا قرائيا ونفسيا في عوالم قصيدة ( قرداش ) والتي تعني كلمة ( اخي ) باللغة التركية .. الا ان من الغريب في الامر هو اننا لم نعثر في القصيدة على ما يدل بمبرروجود كلمة ( قرداش ) ولا نريد الخوض في ما وراء التركات ، وانما نكتفي بالاشارة إلى ان ثمة شعورا كليا ينتظم سياق القصيدة ، شعورا مغيبا بوجود ( خطاطة ما وراء المؤولات الاظهارية ) ضمن ذاكرة حية ومتفاعلة مع موضوعة الذات الشاعرة وخفاء اشتراطات الصورة الشعرية المؤثرة ..