23 ديسمبر، 2024 8:10 ص

وقفة مع عوالم شعرية طالب عبد العزيز ( 8 )

وقفة مع عوالم شعرية طالب عبد العزيز ( 8 )

( رؤية المدينة في مدلولية فضاء الأنا الشعرية )
ــ المدينة و ملامحها و ذاكرتها في النص .
مدخل : أهم ما يطالعنا في شعرية قصائد الشاعر الكبير طالب عبد العزيز ، ملامح و مشاهد صورة المدينة . فالمدينة عند الشاعر تأخذ أبعادا إيحائية و دلالية مثيرة ، و مداليل تتخطى المألوف إلى مساحات الوصف الغيري المتقد و معنى ما راح يضيف إليه الشاعر في ذاكرته و وجودها كذاكرة أخذت توسع حدود أنثيالات المدينة لديه وصولا نحو تلك المحمولات الاستعارية و التشخيصية و الرعشات التوصيفية الحاذقة في مواطن سؤال حال جوهر علاقات ثنائية ( الشاعر / المدينة ) . ولا يقتصر توسيع الشاعر لذاكرة مدينته عبر المسمى الواحد و المعنى الأحادي ، بل أنه أخذ يتعدى هذا الأمر إلى جملة التراكيب التشاكلية ككل ، حتى تكون علاقة الشاعر بالمدينة ، علاقة كلية كينونية ، تتوالد عنها مواطن و شواهد وعلامات دلالات : ( النخل / الأنهار / الفواخت / الأب / عبادان / الجسر / أبي الخصيب / البستاني / النافذة / النوتي / آس و برد / تواريخ الأسى ) فالصورة الشعرية للمدينة في رؤى قصيدة الشاعر ، لا يمكنها أن تأتي أعتباطا ، بل أنها مجموعة بنيات صنعتها التلميحات و المخاتلات التوصيفية السرانية ، إذ أنها تحتل مواقعها الصورية بين ( أنا الشاعر ) و حالات و صور و مشخصات الرؤية العلائقية و العاملية بين فاعل الحالة و بين صورة مفعول المدينة و تشوفات أدوارها الإيحائية في وحدة مدينة الشاعر .

1ــ حسية المكان و فاعلية بؤرة التصوير القصدي :
ما أنفرد به الشاعر طالب عبد العزيز في تشكيل مهيمنات ملامح و تفاصيل المدينة ، هو ذلك الامتزاج الصوتي و الدلالي المنزاح في مساحة التقاطه لتلك الدعائم الصورية الموجهة نحو وظيفة ( جهة الموضوعة ) وصولا إلى تمظهرات الفعل و الكلام و الوصف و الاسترداد التأملي لأدق تفاصيل ثيمات الفضاء و الحالات التخييلية المنداحة في أفق نسيج ( = حسية المكان ) مما جعل بؤرة الأفق الصوري في رحابة امتدادات دلالة ملفوظ النص المفتوح على مجمل وقائع و محاور اللعبة الاستقطابية المنجدلة في قول النموذج الشعري لديه :

حزينا ، أنصت للغابة في نسغها ،
شجرة الظل الوحيدة ، في بهو المنزل ،
قرب النافذة ، مع الأرائك و الطاولات
مع الباب ينفتح و ينغلق ، خلف ستار
الموسلين
بستاني عجوز ، أقعدها في أصيص
ومضى .. ص 27 ص28

تنفتح آلية التضامن التشكيلي هنا عبر حركية جوهر ( = المكان من الداخل ) حيث تقرن حساسية الوصف بحالات النموذج الموصوف لفضاء حكاية المكان و ذاكرة فعلية دلالة معطى الزمن الأكثر توغلا في تجليات الأنا الواصفة : ( حزينا .. أنصت للغابة في نسغها / شجرة الظل الوحيدة في بهو المنزل ) و الحال نفسه يتجرد من تفاصيل الخارج النصي وصولا به إلى حضورية مجال مكنز الذاكرة الشعرية الملامسة لمسارات حميمية المدينة و محاور دلالاتها العاملية 🙁 بستاني عجوز ، أقعدها في أصيص و مضى ) و على هذا النحو المماثل تواجهنا ، حساسية المركز الدال في النموذج المكاني ، مما راح يؤسس له ثمة معالم خاصة من أنساق صورية الأفق التشكيلي الممتد نحو مشهد ذاكرة المدينة الخاص و العام .

حتى وهم ينثرون ثيابها
على النهر ، في بيتنا الطيني
بحثا عن أخي الأكبر ، قبل ثلاثين عاما
ظلت أمي تحتفظ بصورة للزعيم . ص15

إذ تتمكن حساسية الوصف بشعرية الحال هنا ، من الوصول بالتفاصيل الذاكراتية إلى مجال تأسيس المشاهد الحية القادمة من محكيات جذور و مجالات صور المدينة ، فيما بات يتضح الأمر من داخل فضاء موحد من مستويات الدال المركز : ( حتى وهم ينثرون ثيابها على النهر = فضاء = وصلة و فصلة = زوال = ذاكرة المدينة ) و تبها لهذه الحال تنفتح لنا اللقطة التصويرية الثانية لتتجلى من خلالها الصفة الزمنية الخاصة بتضاعيف الغياب : ( بحثا عن أخي ــ قبل ثلاثين عاما = قصة الذاكرة =الحصول و المنع = تجليات أسرار ) فيما تنتقل ترسيمة الشاعر نحو ذلك الفضاء الأكثر بانوراما وهو يحكي لنا عن دلالة اللقطتين الواقعتين بين الذاكرة ( قبل ثلاثين عاما ) و الزمن الفاعل ( بحثا عن أخي الأكبر) و صورة انتاج المسكوت عنه ( ظلت أمي تحتفظ بصورة للزعيم ) و في مجالات أخرى من طاقة التشكيل المنبثق من وحي ذاكرة المدينة و تفاصيل صورها و مشاهدها ، نعاين مدى ذلك التراوح بين صورة ( الأنا = المدينة ) و بين حالات و تحولات كشوفات فضاءات المكان في حاضرية و غيابات فعل مكونات الموصوف الشعري :

أمي التي ظلت تحب الزعيم الأوحد
لم تره في تلفاز
و لم تقرأه في كتاب الموانىء
ــ جلبه أبي من المعقل ــ
لم تسمع منه كلمة رثاء لأبنها
الذي مات في سجن على الفرات
لكنها ظلت مخلصة له ،
تحفظ عن ظهر قلب صورته ، باسما
في دفتر الضمان الأجتماعي . ص16

أن الفضاء الحميمي هنا بالأسى راح يجسد لنا أسمى علامات أيقونات الصورية البانورامية المؤثرة بعلاقة حية وحسية تنتظمها صورة الفقد و القفدان ، لتتماهى جنبا مع صفة الكشف عن مخبوءات الأكتمال الذاكراتي في رؤية فضاء الذاكرة و زمن مضمونها الجوهري و المتمثل بجمل و دلالات هذه الوحدات : ( أمي = المدينة =الفقدان = ذاكرة المباشر و المتصل = وصفا زمنيا مزحوما = ثراء دلالة ) و تعكس دوال القصيدة في الوقت نفسه ، صورة و منصة جذور المدينة و محاور دلالاتها المكانية تحديدا و المتجسدة ب ( و لم تقرأه في كتاب الموانىء ــ جلبه أبي من المعقل ) و ينطبق النموذج ذاته مع رؤية قصيدة ( عبد العزيز ) و قصيدة ( أمطار خضراء ) :
العبيد يصلحون قاربك
و فلاحون من أبي الخصيب
يحرثون لك الأفق . ص27

أن القارىء لمجالات رؤية الشاعر في عوالم قصائده ، لربما سوف يعاين مدى اطلاقية موصوفات دوال النص لدى الشاعر حيث اتصال رؤية الشاعر ذاتها انطلاقا من نواة نقطة فضاءات المدينة و أحوالها المرسومة في مجرى متغيرات رصد الأشياء المرئية و اللامرئية ، و ما تخبئه وراءها من لحظات أزمنة المكان و مشاهد فاعلية الدليل العضوي .

ــ القصيدة بين السرد و شعرية الحال .
أن المتابع لمتواليات قصيدة الشاعر طالب عبد العزيز إجمالا ، لعله يلاحظ مدى اقتراب لغة النص الشعرية من لغة السرد القصصي ، غير أنها ــ أي لغة القصيدة ــ تفترق عن لغة السرد من ناحية كونها مرتفعة في درجة حالها الشعري ، و وقوع منظورها الدوالي في خانة الانزياح اللغوي و الترميزي و الشكلي . ممكن أن نعدها قصيدة سردية بامتياز أعلى مراحل الأسلوبية الشعرية ، حيث الوظيفة الناظمة لحركية الامتثال الأجناسي النافذ في هوية النص الشعري ، مما جعل القصيدة تبدو في أسمى مراحل الأدوار الوظيفية العاملية في التصوير و الاداة و الرؤية و الخطاب . على أية حال نقول أن قصيدة الشاعر أهتمت إلى درجة قصوى ، بتدوين خلفيات صورة المدينة و فضاء المدينة . و التواصل مع صوت الدلالات المتكفلة في تشكيل الأفعال الرؤيوية المنمقة عن صورة و ملامح و زمن المدينة . و تضيف مجموعة قصائد ( الخصيبي ) و مجموعة قصائد ( تأريخ الأسى ) ومجموعة ( تاسوعاء ) و مجموعة ( طريقان على الماء واحد على اليابسة ) أجلى المواقع التي من خلالها يمكننا مرأى مقولة وصف المدينة ، و عبر حالات الأنا من زاوية البوح بالعلامة و تكثيف الإيحاء و اللغة المزاحة نحو رسم أعمق تفاصيل النص و ضمن محققات انتقالية و استبدالية و تقاطعية ، تتضح من خلالها صورة المدينة و صوت حالات الشاعر من خلالها ، و كأنه صدى مرثية مشحونة بدلالات الذاكرة و الحلم و الغياب في صوت الأشياء:

مائة سنة مرت على اللحظة التي فقد أبي
ظلاله عندها
عند التراب الذي تراجع تحت مشيئته
أرتضى الأنهار و المطر و الشمس رفقة
لطالما قفيت على رسمة قدمه
واثقة ، تتراءى لي بين الخطى الشاحبات . ص11

و حين تتسع ذاكرة المدينة بالشاعر ، نجد علامات التوصيف تنضم إلى الجزء الأخير من حالة فضاء المدينة الموصولة بآلية الاسترجاع و التقدير الزمني و الدلالي : ( مائة سنة مرت على اللحظة التي فقد أبي ظلاله عندها =سياق الزمن = عاملية أختزال = مصير الذاكرة ) و تبعا لهذا التشكيل أخذ الشاعر يرسم المسافات الدلالية ضمن انتقائية الانعطافة المنضوية أساسا تحت سلطة المجال الاستعادي بالزمن الممكن : ( و ارتضى الانهار و المطر و الشمس رفقة ) . من هنا وجدنا الذات الواصفة في عوالم قصيدة ملامح المدينة لدى الشاعر، تقدم لنا بالرمز و بالشعور و البديل الاستعادي أرتباطا وثيقا ، فعبر حلم المدينة و واقعها المحال و المعقول ، جاءنا فعل المكاشفة بأنسنة حالات لغة الأشياء كمحاور شكلتها انعكاسية صور و مظاهر و مواقع و ذوات المدينة على خصوصية علاقات الشاعر بها ، لتشكل لنا جملة تلك العلامة الواقعة بين كينونة النص و شعرية ذاكرة الرؤية . فعبر صورة مؤثثات أحوال الأنا ، أتضحت لنا صورة الأهتزازات الداخلية الكامنة في معالم ذاتية الشاعر حول مدينته كعلاقات دلالية أخذ يحددها صوت الأنا في الابعاد الزمنية و المكانية و النفسية و الاحوالية في قصيدة الشاعر :

نساؤهم يجئن بالمودة خالصة، مع اللبن
و الخضار و الفاكهة
إلى سوق بالبصرة القديمة ..
و بأصابع من صفصاف و حناء ،
يضفرن من الخوص البليل المراوح و السلال و القبعات. ص52

بهذه التواصيف تعرفنا على لغة ( يوتوبيا المدينة ) حيث تمفصلات مخيلة قصائد الشاعر ، تنصب في مرآة صافية أخذت تعكس صورة حالات و تفاصيل دلالات المستتر من فضاءات رؤية المدينة نحو أفق ( = مدلولية = دليل الأنا ) فتغدو مرآيا النص بهذا الحال ، هو ما يجعل حالات التكثيف التصويري لأنا الشاعر ، أكثر غورا في غوامض غاياته الدلالية المترشحة عبر مرآيا استرجاعاته الأفاقية الواصفة لخزين مرايا أشباح البساتين ، و نشيج مكبوتات القناطر و المشاحيف . أن الشاعر طالب عبد العزيز لا يقدم ملامح مدينته كصورة تقريرية و ديكورية في بنية قصديته بل أنه راح يقدمها ضمن معطيات و مسوغات و تشكيلات و انزياحات ( صوت النص و الآخر ) و هذا النوع من التشكيل الصياغي لا يجيء ، إلا من أفق مخيلة شعرية تمتلك أقصى حالات الأمساك بلحظات البرق الشعري الأصيل .