23 ديسمبر، 2024 1:45 م

وقفات مع الشاعرة وئام ملا سلمان – 5 / 5

وقفات مع الشاعرة وئام ملا سلمان – 5 / 5

وأنا طفَوْتُ بزورق خلِق الشراعِ
لا الله  يوقف ريحَهُ
وما أقوى لتجذيف… وقد شُلّت ذراعي
وحدي أصارع طقسها
دنياي ذي ما أنصفتني
ما عاد يلزمُني مَتاعي
…….
دنا الرحيلُ…
ولاح لي أفقُ الوداعِ

كنت قد انتويت أن تكون هذه الوقفة مخصصة لنثريات “قصائد نثر” الشاعرة وئام ملا ، حتى وجدتني أمام قصيدة قمينة بالتوقف عندها وجديرة بأن يطلع عليها القاريء، هذه القصيدة مذيلة بتاريخ 8 تموز/يوليو 2004، عندما قرأتها لأول وهلة قفزت بذهني قصيدة “المركب السكران”، لأرثر رامبو رغم أن هذه الأخيرة ذات طابع وصفي يحمل في طياته أو يدفع نحو تأملات جبرية…قصيدة شاعرتنا تمثل نموذجا لشاعر خبر القصيدة العمودية المحافظة ومارس شعريتها وولج عالم قصيدة التفعيلة، فهي تحمل سمات القصيدة المحافظة رغم خروجها على نظام الشطرين، ذلك أن دفق التأمل وفيضان الخاطر الشعري هو الذي حدد المسار البنائي الهيكلي للقصيدة، أي عدم تساوي العبارة الشعرية، فقد يفرغ الدفق بكلمتين:
دنا الرحيل…
وقد يلزم ست كلمات:
وما أقوى لتجذيف وقد شُلّت ذراعي
وهذه هي حسنة شعر التفعيلة، أسوق هذا لأهمية ما نراه شائعا جدا، حين يعمد كثير من شعراء اليوم الى جعل سيرورة العبارة تركيبا وطولا خاضعة لإرادته، مما يؤشر على أكثر من اعتبار، أهمُّه أن الشاعر يصطنع القصيدة اصطناعا، وان فهم الشاعر لقصيدته يجعله أمام تساؤل، وخاصة في تلك القصائد التي يجنح الشاعر فيها للغموض المتكلَّف!
 بعد أن استهللنا بالجزء الأخير من القصيدة أود الرجوع الى  أولها:
وَجَبَ الفؤاد…
يا أربعيني شاوريني وأخرِجيني من ضَياعي
عييتُ كيف أردُّه؟
لعب الهوى بي … دون داعي
ما كنت أحسب أن أهون بكذبه
لا حلّ يومٌ
صرتُ فيه رهينةٌ لك في الخداعِ
ماذا أقول؟ برَد الكلام
ولقد أميطَ عن القناعِ
كل الذي أسمعتَنيه… أنكرتَهُ
من اشتياقٍ والتياعِ
الريحُ تغدرُني وموجُ البحرِ يعلو
وأنا طفوتُ…..الخ

القصيدة تحمل خواطر وهواجس لسيدة  في سن النضج الفلسفي، هذه الخواطر تتقاذفها كما الأمواج حين تطوّح بمركب مهلهل الشراع من جميع الإتجاهات، كما أن القصيدة تحمل تداعيات ذاتية لتجربة تبدو خائبة، تبخرت الآمال وتركت حسرة وعتابا مع الآخر ولوما وتقريعا للذات، ورغم هذا الوجيب، ورغم علو الأمواج وتلاطمها في بحر هائج، نجد لغة القصيدة هادئة لنفس تمور بخواطر شتى، الـتأمل حالة علاجية تكمن في شجاعة الإنسان لمواجهة الذات واستخلاص عِبر تُنضج النفس اللوّامة،،التناوب بين لغة المخاطَب ولغة المتكلم وبنقلات متأنية على الكامل، أشاع جوا موسيقيا دافئا مع روي العين المطلق بالجر، مما اغنى الجانب الصوتي، الصور البلاغية على قلتها حاضرة، بسبب الهواجس والتداعيات، لغة القصيدة مركزة منسجمة تمام الإنسجام كحبات مسبحة لا نتوءات ولا خدوش بل الانسياب على أتمه مع شفافية حزينة ترافق القصيدة من أولها حتى منتهاها. ومنتهاها هذا غاية في التشاؤم مما يعكس مرارة التجربة: دنا الرحيل/ ولاح لي أفق الوداعِ …
بعد صدور كتاب فيض الخاطر لأحمد أمين، وهو مجموعة مقالات لعموده في إحدى الصحف المصرية، جمعها في دفة كتاب، فراح كثير من المتأدبين ينهجون نهجه وشاع في الخمسينات المتأخرة والستينات وحتى السبعينات، لون أدبي من النثر الشاعري الذي يكتنفه شيء من الخيال مع محاكاة لاسلوب جبران خليل جبران، فغزا هذا للون  الصفحات الأدبية تحت عنوان “خاطرة” حتى كان بوسع المرىء أن يقرأ خاطرتين أو ثلاث في الصفحة الواحدة ثم لم يلبث أن كسد سوق الخواطر وتلا شت لتحل محلها القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا ثم انحسرت في جزر أمام مد هائل من لون من النثر المركز ذي المَسحة الشاعرية  ظهر بقوة منذ أواسط السبعينات ومارسه شعراء مهمون راح يقلدهم أجيال من الشباب واصطلح على هذا اللون ب”قصيدة النثر”!
الوزن بالنسبة للقصيدة العربية هو بمثابة الهيكل العظمي للحيوان الفقري، أما بالنسبة  للنسيج الشعري من لغة وخيال وأفكار وعواطف وبلاغة فهي بمثابة اللحم والدم والأعصاب التي تكسو الهيكل العظمي، ودون هذا الهيكل يتحول الكائن الى كومة من الرخويات لا شكل ولا ملامح لها، وعلى هذا الاساس فإن خلو مايسمى قصيدة النثر من الوزن يخرجها بالضرورة من الشعر، لهذا فإن الكثير رفض أن يوصف هذا اللون من النثر الفني بالقصيدة وأذكر منهم الدكتورة بنت الشاطيء وقبلها طه حسين وآخرون,,,لقد مرّ معنا أن البند لم يصنف لدى كثير من الباحثين من الشعر ولم تشفع له خصوصية وزنه وتعدد قوافيه فما بالكم إذا غاب الوزن والقافية كليا؟!تجربة هذا اللون نشأت في لبنان وروجت له مجلة شعر في لبنان في الستينات، برع فيه الراحل محمد الماغوط، ثم انتشر انتشار النار في الهشيم …
شعر أية أمة مادته لغتها، خصائصه من خصائصها، وصوتها من صوتها،،، والوزن والقافية هو من خصائص الشعر العربي فرضته طبيعة اللغة العربية وتداخل أصواتها من ساكن ومتحرك ونبر وتشديد وإرخاء ووصل وقطع  ومد وإدغام … وفرضته بلاغتها ونحوها وصرفها، تلمس هذا لا في شعر شاعر واحد بل بديوان العرب كله،في ضوء كلامن هذا لنقرأ هذه “القصيدة النثرية” وأفضل أن تسمى نثرية (دون كلمة قصيدة) سنجد أنها لا تخلو من موسيقى داخلية وهذا ما يجعلها أفضل مما هو شائع:
 
وتظل خيباتي  ثياب العمر ،ألبسُها ،محاصرةً خطاي، رقصَت بباحة سجنها ،وتمايلت سكراً ،على وجع الشموع ،كأس ٌ..وأجراسٌ تدق ،حفاوةٌ لجديدِ آت ،عقارب الساعات في جوف المدينة ينتقلن ،ولا انفلات !  زمن ورائي كيف فك  يدي ، وسلـّمني إلى زمن أمام!لم اعترض ابداً ،ويـُسحب من رصيد العمر عام ،الليل ذاك الليل أثقل من قبيس مطواة ذاكرتي بأوداجي تغور، خمسون يا للعمر يركض ،غيمة في أبط  ريح ، تساؤل الموت المُغيّب في جريح ، ما زلت أجهل  كيف يــُسترق السرور،كحمامةٍ حط الخريف على شجيرتها وغادرت الجداول وارتعشات المروج ،رهينة ما بين أكوام الثلوج ،فم لبركان سكين ،من دون إشعار يثور ،أوتدري يا زمني المديد ؟ما عدت في المنفى ولكني بعيد،  ووجدتــُني أم لم أجدني ، تلك معضلة الضياع ،أبصرت من ثقبٍ وعدت إلى الشبابيك الصغار ، لا شمس تشغلني بخيط من شعاع ،صبحي وليلي في ظلام مزمن ، من أين لي أن اجمع الضوء الذي ارتطمت به ندب الغبار ! رجعتُ أغرق في الطفولة أقتفي صوراً تسافر بالهموم إلى هناك إذ كان اقصى السحر  متسعاً لدي سما العراق ،في سطحنا ، أغفو على رقم تحدده النجوم العاريات 
يا دهشة كم أرقتني في التعاريج المقيمة في سماك ،قد كان  يسرق أعيني القمر اليطارد خلف كثبان الغيوم ، يا أيها القمر القديم ،لا هالة أوشت بعشق، لا بريق فوق أنسجة الرماد ،لا سميراً ارتضي ، القمر الجديد ، والنفوس ملبدات بالحداد ، ويفوتني عيد بليد ، ليجيء بالأسقام عيد ، وهوايتي أن أجمع الأحزان أرزمها  بصدري آمنات ، ومعاً على عهد قطعناه  نبات ،حتى يفك الموت صندوق البريد.
-انتهى-