أود أن أستهل هذه الوقفة بمقولة المتصوف النِّفري ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”، وهذا العارف عراقي ينتسب الى نِّفّر وهي الوركاء من أقدم الحواضر في بلاد بين النهرين لا زالت زقورتها وآثار عمائرها شاخصة من أعمال السماوة. وما يهمنا أن محمد بن عبد الله النفري الذي عاش في بغداد في القرن الرابع الهجري (ت354ه)، أطلق قولته هذه وما كان يدري، أنها تمثل مُدرَكاconcept واسعا في جدل العلاقة بين المضمون والشكل صاغه بخمس كلمات بسلاسة وإيجاز مُعجِب، وهي تشكل ركنا هاما في نظرية المعرفة الماركسية التي هي نتاج الديالكتيك المادي في التناقض بين الجديد -الذي ينشأ في رحِم القديم- والقديم ذاته. إن هذه الومضة تتيح لنا فهما موضوعيا ماديا للإنسلاخات التي طرأت على هيكل القصيدة المحافِظة بَدءً من الموشح، الذي ما كان في جوهره إلا استجابة لحياة اندلسية جديدة متحضرة بيئة ومجتمعا مما جعل وعاء القصيدة “القديم” لا يتسع لهذه المتغيرات التي نأت عن حياة الجزيرة العربية أيما نأي. لقد ظهر هذا اللون بسمات لا قبل للعمود الشعر العربي بها، عدم الإلتزام بالأعاريض الخليلية كل الإلتزام، تعدد القوافي، الإقتراب من اللغة المحكية مما يجعله ملائما لأنغام الغناء وإيقاعات الموسيقى( جل أنغامه من البيات) والرقص التي جلبتها الحياة الأندلسية…
لئن دام الموشح شعرا وغناء ونجحت تجربته ولازلنا نقرأ شعره ونطرب لغنائه فإننا لم نعُد نرى وشّاحين من الشعراء؟! يمكن تلمس الجواب في طيّات الفقرة أعلاه، وهو أن الحياة بدأت تتطور بعد الحرب العالمية الأولى فالثانية مما أفرزت (الحياة) مدارس جديدة وأفكارا نيرة مهدت لظهور انسلاخات في شكل القصيدة تخطت الموشح بمسافة نائية…وهذا ما يفسر سرعة تلاشي تجربة البند التي لم تعالج معالجة علمية موضوعية من قسم من الباحثين سوى الانشغال بمن هو السابق من شعرائها والخصائص العروضية وجمع لبعض قصائد الشعراء، مع تفاوت بحجم الدراسات وجديتها وعمقها، مثل: البند في الشعر العربي للأستاذ عبد الكريم الدجيلي، والعلامة السيد محسن الأمين في كتابه معادن الجواهر ونزهة الخاطر، والشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين في الإيقاع في الشعر العربي…وترى الشاعرة الرائدة نازك الملائكة أن البند أعظم ارهاص بالشعر الحر ” لا بل إن هذا البند هو نفسه الشعر الحر” وتذكر أسبابا ثلاثة: 1- “لأنه شعر تفعيلة لا شعر شطر. 2- لأن الشُّطُر فيه غير متساوية الطول. 3- لأن القافيه فيه غير موحدة وإنما ينتقل الشاعر من قافية الى قافية وفق نظام محدد”. (قضايا الشعر المعصر). و في السبب الأول نظر، هو أن التفعيلة أخذت من الرمل فاعلاتن ومن الهزج مفاعيلن ويختلط البحران في بند واحد مما يجعله مركبا وهي نفسها تقول في موضع آخر أن البند ذو وزنين لا وزن واحد ” أن الوزنين يتداخلان على شكل غريب كل الغرابة… حيث يفضي أحدهما للآخر باستعمال ضرب معين” وفي هذا اختلاف مع الشعر الحر الذي هو ذو تفعيلة واحدة مكررة خارج نظام الشطرين! والملاحظة الثانية هو أن البند ظهر واختفى بسرعة ولم يترك أثرا يذكر في المسيرة التجديدية للشعر وإنما يذكر في الجانب التأريخي المنقطع عن ظهور الشعر الحر كل الإنقطاع،،، وبهذا الصدد أستذكر مثلا مهما وهو الموسيقار بيتر ونتر (1754-1825)Peter Winter هو أول من أدخل الإنشاد أي الصوت vocal في السمفونية قبل بتهوفن Beethoven(1770-1827) في سمفونيته التاسعة/ الحركة الأخيرة، التي جاءت في سياق عمره ثماني سمفونيات ناجحات و عشرات من الكونسرتات وغيرها، فاشتهر الثاني وبقي الأول لا يذكر الى في هوامش تاريخ الموسيقى!
فرشت هذه الأرضية لتكون مدخلا لوقفتنا هذه مع الشاعرة وئام ملا سلمان لنطّلع على شعرها الحديث بعد ان أمضينا ثلاث وقفات مع شعرها الكلاسيكي المحافِظ، ومن خلال متابعتي المتواضعة للشعراء الذين كتبوا أشعارهم في النمطين المحافظ والحديث استنتجت أن من تمكن في المحافظ سيتمكن في الحديث في شعر التفعيلة أوالحداثي عموما وما يصطلح عليه في قصيدة النثر، مثال ذلك كل القامات الكبيرة من رواد شعر التفعيلة وما بعده،،، فكيف هو الحال مع شاعرتنا؟ هذه مقاطع مختارة من قصيدة طويلة رقُمتُها على غير تسلسلها:
1- لكل لحظة لونُها أيها الزمن/ أراني بها من سلالة الأنبياء/ طالما في فمي لقمة، تُخرس جوعي/ وخرقة ثوب أواري بها جسدي/ وأُخفي ضلوعي/ أبقى بقلب الثراء، أنا في تجلٍّ مع الكوني يُسحرني/ وأبكي له من خشوعي/ أُصغي لنجواي/من عمق نجواي أقول / مالي وهمُ؟!
2- هي اللحظةُ التي تحتوينا/ فاملأينا.. واغدقينا..بعذاب الطُّلى/ سَليهِ إذن هل ضرّه/ إن بات في جوف آنية من زجاج، أو آنية من خزف!
3- الجليدُ عند دكّة داري باق/ والسماءُ ما خلعت بُزّة الغيم بعدُ/ مالذي في الحياة اختلف؟/ بين يوم تلاشى ويوم أزف/ ها نحن قد خلقنا فكرة هذا الغيور/ وعد الزمان/ يا أيها الندمان
4- أيها الطائر المحلق بين بياضين/ بغَبطة وسرور/ عاريا على الغُصين تحطّ/هازئا من الزمهرير/ كل يوم تزورني أراك/ والصقيع ينهال من كل صوب راقصا كأنك في جنة وحرير/ وأنا الإنسان تحت سقف أُقيم/ ترتل لي ما تيسر لي من أغنيات الحبور/ بارد العيش لادبيب أحسه/ فحياتي سيّان وهدأة أهل القبور.
5-أيها الخريف لا تستعجل الرحيل/ فالنورس المعطوب الساق عند ناصية البحر/ ينتظرني بعد ظهيرة كل يوم لأطعمه/إنه هو وحده لا سواه/ أيتها الكارما لقد ازددت يقينا بك.
هذه المقاطع تبدو على نقلات قد لاتجمعها بالضرورة وحدة موضوعية خاصة بالأنتقال من 2الى 3والسبب هو أنها تأملات وأرهاصات ليست محض ذاتية كما أنها مقتطفات من قصيدة طويلة. العزلة والغربة تتيح للمغترب تأمل الذات والإصغاء لهواجسها، والزهد الصوفي بها، إن الإستماع الى الى الذات وتداعياتها تحمل متعة وسأم في الوقت ذاته وهي وسيلة فعالة للأسراع باللحظات التي تمر ثقيلة كأنها تلبس أحذية رصاصية والتعبير لسعدي يوسف، التأمل لحظات تحتوينا فعلا، والتأمل في الديانات الشرقية عبادة وفرصة لمحاسبة النفس وتعقيمها مما يعلق بها،وهذه القصيدة تبدو أكثر ألفة لمن ذاق طعم الغربة في دول الشمال حين ينهمر الثلج ، ومراقبة حركة دقائق الثلج التي وصفتها الشاعرة بدقة حيث تتحرك عشوائيا في كل الإتجاهات وتبدو معلقة كأنها نديف قطن، تسمى هذه الحركة فيزيائيا بالحركة البراونية Brownian motion ويعبر عنها رياضيا، وقد سجلها العالم البيولوجي براون عام 1827 عند فحصه بالمجهر لحركة حبوب الطلع في الماء…وحيث يستغرق المرؤ في تأملاته من خلل زجاج النافذة حيث تكاد حركة الناس تنعدم، يسعد كثيرا بحركة الغربان السود حيث تنزلق عليها حبات الثلج ويبدو لونها الأسود جميلا في سماء وأرض أديمها الثلج: والضدُ يظهر حسنَه الضدُّ. الغربان يعشقها الأوربيون رغم خبثها وعبثها بالأزبال التي تخرجها من الخوابي، لأنها تعطي حركة في عالم كل شيء يبدو فيه باردا ساكنا! للشاعرة نشاط بارز في حب الطيور وإطعامها فهي تتعنى شتاء الى منطقة سلوسن Slussen في ستوكهولم تحمل غلة مملوءة خبزا وفطائر لتطعم النوارس حيث يشح الغذاء، والنورس المعطوب في ساقه – مقطع5- ليس بالضرورة بفعل حادثة إنما بفعل مرض نقص الكالسيوم الذي يسبب هشاشة في العظام وضمور في الأطراف خاصة في الشتاء! لغة الشاعرة صافية منسابة مموسقة وإن مالت الى النثر في عدة مواضع لكن الأسلوب الفني المركز أضفى مسحة جميلة غامضة غموضا بدون تعمية أو إبهام مما يشد القاري للإبحار مع الشاعرة في تأملاتها بحثا عن الكرما Karmaالتي تسمو بالنفس بما فيها طقوس إطعام النوارس والغربان!
لم يُعرف أن هناك شاعرا رسم النماذج البشرية وصورها قبل العبقري ابن الرومي، وقد صور هذا الشاعر نماذجه بشكل مدهش وبأساليب عديدةٍ تعدد نماذجه وتنوعها فهو المصور الكركتوري كما في وصفه للأحدب والمغني، وهو مصور فني فوتوغرافي محايد كما في تصويره للخباز وصانع الزلابية، أما في وصف الحمال الأعمى فيبلغ حسُّه الإنساني الى أعلى مدى ويقدم لكل ذي قلب صورة لاتمحى من البال والضمير وطالما استدرت أدمع ذوي القلوب الرقيقة، وكم تمنيت في مناهجنا الدراسية أن تذكر هذه القصيدة بدلا من قصيدة الأحدب، فشتان في المغزى الإنساني شتان!
وشاعرتنا لها قصائد في هذا الفن رسمت بها بتركيز وبجمل بلاغية غاية في الإختصار والتعبير معا لنماذج بشرية من النجف، أتيح لي أن أعرفها لكوني أمضيت فيها ردحا من الصبا والشباب، ومن يريد أن يعرف المزيد عن هذه النماذج فليراجعِ الملف الذي أعده وشارك فيه اد. عبد الإله الصائغ – أتمنى له الشفاء- تحت عنوان “مخابيل النجف” وشارك فيه الأساتذه عباس سميسم وذياب آل غلام، وأمير الحلو وآخرون.. وكثير من شخصيات الملف رسمتها الشاعرة وئام ملا سلمان شعرا، سأختار بعضها فلنسمع:
1. شكوري/ أحلى المجانين أنتَ/ وأخلدهم في سجل الحنين/متى ما مررت ببالي/ أعود لباكورة الكركرات/ومن لوحة العمر/ أمحو جميع السنين.
2. أم العيس/ يدها منذورة للخراب/غير آبهة للفصول/ لاترتيجك ولا تسألك/ ولا تدعو الله أن يبعث الرزق لك/ تسعى وفي فمها مفردات السباب.
3. سيد كاظم/صامت قلّما نطق/ جسد ناحلً وصغير رأس/نخامته لا تفارق جدول أيامه/ هاديءٌ في خطاه/لا يحرك حبة رمل تحت أقدامه/يحتضن قديم الجرائد ويمضي بأعلامه/زاده خُمس جده يلقاه حيث تمشى/ وما تُطعم الأمهاتُ من عامرات الموائد/ لطيبته والثواب المُرّجى.
4. حمّد عصّه../ إذا ماغرّد الحزن/ وفاض الدمعُ في الأحداق/ وفي القلب غدت غَصّه/أجول وذكريات الأمس بالأشواق/لخيط طفولتي المشدودِ في عُنُقي/( وعَشرُ فلوس مصروفي)/ وحَب شمسي قمر بلفائف الورق/للترنيمة الكبرى/ أنشدها وكل صغار شارعنا/حين يمر مخبول عرفناه/إذ تتلذذ الأفواه/وهي تقول ما نَصَّه:/شكوري رئيس الجيش والقائد حمّد عصه.
ويرى القاريء أن القصائد تجمع بين الجزالة والدقة والصورالبلاغية المعبرة وحسن الاختصار، والعبارات صافية ومنسابة. أدركت شكوري، رجل تجاوز الثلاثين، نحيف أسمر حليق الرأس يمشي خببا مفزوعا بين الهرولة والجري، لكثرة ما يضايقه الصبيان، وهو لايرد عن نفسه ضيما ولا ضربا، ووسيلته الجري. يواجهك في السوق الكبير ماشيا بأمان، وعند المدراس حيث يكثر الصبيان اجده راكضا لا يلوي على شيء والصبيان خلفه!تألق نجمه في أواسط الستينات، ولا أدري متى أفل! لم أعرف أم العيس لأنها نتاج مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، وعداونية أم العيس من عدوانية الحرب، قيل أنها تمسك عصا غليظة وتمر على الواجهات الزجاجية للمحلات ملوحة بها فيبادر أصحابها بإعطائها دريهمات وإلا الكلفة باهظة، الأخذ ما يعطى لها دون كلمة شكر وكأنها ضريبة! سيد كاظم بالإضافة لما وصفته الشاعرة فهوي يحتذي جزمة كبيرة لا تتلاءم وسيقانه الضامرة يمشي بهدوء ممسكا بجرائده وأعلامه ولا يُتحرَّش به لأنه سيد ولاأنه يبلي بلاء حسنا في الدفاع عن نفسه، أما نخامته فهي إفرازات الأنف الباينة من معين لا يجف، وكأني بكثيِّر قال فيه:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثيابه أسد هصورُ
حمد عصّه المجنون الصامت الكئيب الغامض، يحسه الناس مجنونا وهو يحسب الناس مجانين، وكأن الحاج زاير النجفي قال فيه: والناس قالت مجنون بعقلي اقنعت بس آنه!
– للموضوع صلة –