23 ديسمبر، 2024 2:45 م

وقفات مع الشاعرة وئام ملا سلمان – 2

وقفات مع الشاعرة وئام ملا سلمان – 2

للشاعرة وئام ملا سلمان نفَس شعري طويل دون هبوط أو نبو، دللنا عليه في الوقفة الأولى بعدة قصائد، واستشهدنا بمطولتين لا يمكننا اجتزاءهما نظرا لوحدة القصيدتين الموضوعية وتماسك قوي في إداء السرد الملحمي، هما “ملحمة الحسين” و ” سلام على قبة العسجد”. وأمامي الآن قصيدة طويلة نسبيا هي ” يوم الغدير” قوامها خمس وعشرون بيتا على روي الهمزة المطلقة بالكسر وعلى بحر الخفيف مطلعها:
سيّدَ العدلِ فيك كلُّ رجائي     يا عليَّ التقى وبحرَ السّخاءِ
 تستعرض يوم الغدير وأهمية هذا اليوم دينيا وتأريخيا، الى أن تربط الماضي بالحاضر بحسن تخلص، ومهارة مستخلصة العبرة والدرس:
جاشت النفسُ والغديرُ مطِلٌّ       ياغديريَّ أغدقا بالبكاءِ
كلُّ أرض بعد الغريِّ يبابٍ       والنهار الجلي كالطرمساءِ
كيف أقوى وذا العراقُ مُشاعٌ    مستباحٌ لكل دانٍ وناءِ
وهذه الأبيات الثلاثة تعكس انسجاما بين الصوت والصورة، وهي غنية أيضا بالتعابير البلاغية المركبة، ففي البيت الأول نلحظ جمال رد العجز على الصدر(غدير، غديريَّ)، كما كانت الكناية موفقة عن العينين اللتين فاضتا بالدموع بالغديرين، وثالثا المبالغة المفرطة أو ما يعرف بالتهويل البلاغي. لكنني لا أتفق مع المفردة المعجمية  الشاردة “الطرمساء”، والتي تعني الظلمة الحالكة، لغرابتها ولثقل المفردة اللفظي، وكانت الشاعرة قد استخدمت تعبير “الظلماء” بسلاسة وانسجام دون إخلال بالوزن. والبيت الثالث بيت معبر عن الواقع والتهديد لا من قوى الإرهاب فحسب بل من دول بعيدة ومن دول الجوار وعبرت بجناس رائع “دانٍ وناء”.لا أود الإطالة والوقوف عند القصائد الدينية حيث لابد من الإنتقال الى آفاق شعرية أخرى.
وها هي قصيدة وجدانية قد لاحت، تؤكد الأصالة الشعرية للشاعرة وئام ملا سلمان وانتمائها للمدرسة النجفية في الشعر التي طالما تكلمت عن خصائصها الشعرية ( راجع بين تائيتين، في غزل الشاعر عبد الإله الياسري، وغيرها ) والمتمثلة بالجزالة اللفظية، متانة اللغة وثرائها، التصوير البلاغي، وحسن تسلسل الأفكار والعواطف، وطول النفس وثراء الجانب الموسيقي، وتقليد الطبقة الأولى من فحول الشعراء الخ..وهذه القصيدة دليل آخر:
لم أدرِ إذ راحت عُيوني تدمعُ        وعد الهوى أبكي وأذنك تسمعُ
لا شك أن القاريء سيجد هذا البناء الشعري مألوف وزنا وقافية، فهي على بناء مرثية الشاعر المخضرم (جاهلي/إسلامي) أبي ذؤيب الهذلي لابنه والتي مطلعها:
أمن المَنون وريبها تتوجّعُ        والدهر ليس بمعتب من يجزعُ
قالت أميمةُ ما لجسمك شاحبا      منذُ ابتذلتَ ومثل مالك  ينفعُ
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها          الفيت كلَّ تميمة لا   تنفَعُ
قد أطلت في هذا الاستهلال، وشفيعي جمال الأبيات الفلسفي في ثنائية الحياة والموت، مع سلاسة الموسيقى الحزينة على بحر الكامل… ولنعد الى بعض عينية شاعرتنا وئام ملا سلمان، وأقِرُّ أنني أشعر بصعوبة الأختيار، فما أصعب اختيارَ الجميلِ من الجميل، ولست مجاملا:
يا حاكما حتى  بظُلمك عادلا          إني أروم الوصلَ إذ أتمنعُ
والنفسُ تستهوي القليل ترومه   لو عندها سيب الطعام ستشبعُ
واملأ كؤوسي لا تشحَّ على فم     آلى بأن يبقى بخمرك   يترعُ
أقسمتُ بالأوجاع وهي تلوكني     ما كان من آلام  حبك أروعُ
زِدْ من عذابك كي يدوم تعلقي      وامدد بهجرك لن تراني أجزعُ
تكشف الشاعرة عن مفارقة طيلة هذه الأبيات بين ذاتها والمخاطب، واللغةُ مفرداتٍ وعباراتٍ شعريةً تكشف هذا الصراع الذي يحمل معنى الاستكانة،والتسامح، والصور جميلة متتالية صادقة لكنها أيضا مطروقة، فهي تذكرني بابن النبيه المصري شاعر العصر الأيوبي ( 560-619) حين يقول:
أفديه إن حفِظ الهوى أو ضيعا     ملك الفؤاد فما عسى أن أصنعا
من لم يذُق ظُلمَ الحبيب كظُلمه      حُلوا فقد كذَب المحبة وادعى
أما ابن الدجاجي البغدادي (482-564) العالم الفقيه مقرىء القرآن الذي خالط الصوفية وشاركهم غناءهم فقد لاقى عنتا وظلما من ابناء طائفته المتشددين من الحنابلة، حيث سبق الجميع حين يقول:
لي لذة في ذلتي وخضوعي        وأحب بين يديك سكب دموعي
وتضرعي في رأي عينك راحة     لي من جوىً قد كن بين ظلوعي
ما الذُّل للولهان من حكم الهوى   عارٌ ولا جور الهوى  ببديعِ
“البديع” في آخر كلمة من (البِدعة)، حيث كل بدعة ضلال، والشاعر ينفيه عن الحب.
وعودة الى قصيدة شاعرتنا:
إن شاق أمٌ أي يعاند طفلُها        الجوع يرغمه اليها يرجِعُ
الى أن تختتم بختام حسَن، فيه شمس أمل تكتسح جيوش الظلام، حيث تقول متفائلة:
واترك لأهل الفضل أن يتبينوا      الشمسُ تكتسح الدجى إذ تطلعُ
وأختتم هذه الوقفة بسؤال سألنيه بعض من القراء في التعليق والمراسلة عن شخص الشاعرة وئام ملا سلمان، وفي الحقيقة معلوماتي عنها ليست وافية، فالشاعرة لم تعتد الحديث عن نفسها، ولم ألتق بها لحد الآن، لكنني أعرف عن عائلتها النجفية أكثر من شخصها، أخمن أنها من مواليد النصف الأول من العقد الستيني المنصرم، والدها ملا سلمان من أقدم معلمي النجف واشهرهم، عرف بالأخلاص والصرامة، كان يتعاطى الشعر، وكذلك جدها لأبيها، هي أصغر عنقود في عائلة كلُ أفرادها متعلم، وجوابا عن سؤال يتعلق بشاعريتها وبمن تأثرت من الشعراء: “كان أبي معلما تخصص بتعليم اللغة العربية، وفي بيتنا كانت مكتبة والكل يقرأ ويكتب بما في ذلك أمي، وخاصة في فصل الصيف عند القيلولة، كان الكتاب ملازما لها. لقد استفدت كثيرا وأنا امسك كتاب النصوص الأدبية لأخواتي الكبيرات ليقرأن عن ظهر غيب وأنا أصحح لهن إذا ما نسين فتشبعت أذني بموسيقى الشعر وحفظت تلك القصائد”.
كان لأخيها الأستاذ المناضل داوود تأثير كبير عليها فحين خرج من السجن أكتشف لديها ميلا للشعر فأهداها كتاب المتنبي الذي أكبت عليه وحفظت منه ميميته “يا أعدل الناس” التي كتبتها في الامتحان الوزاري للسادس الإبتدائي، من خارج المنهج المقرر، ثم ولعت بشرح المعلقات للزوزني ، وواصلت تقرأ لفحول الشعراء وتحفظ ما تقدر عليه تحت رعاية أخيها الذي عوضها عن حنان الوالد الذي افتقدته وهي في الخامسة من عمرها.
وعن أول قصيدة كتبتها قالت وئام ملا سلمان:” كتبت أول قصيدة  في نكبة حزيران وليست النكبة وحدها هي السبب إنما نكبة أسرتي التي كانت تعيش أجواء السجون وموت والدي ولكن المعلمة خذلتني وهي تسأل من كتب لك هذا؟!”… السيدة وئام أم لولدين وبنت، كلهم راشد…
– للموضوع صلة –