23 ديسمبر، 2024 12:44 م

وقتما وقفت أمام الرئيس “عبدالسلام عارف” للمرة الأولى

وقتما وقفت أمام الرئيس “عبدالسلام عارف” للمرة الأولى

عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
ما زلت أعدّ اليوم الثاني من إستلامي مهمة حماية مسكن عائلة الرئيس “عبدالسلام محمد عارف” الموافق (السبت22آب/آغسطس1964) يوماً تأريخياً، حين وقفت أمامه وجهاً لوجه للمرة الأولى في حياتي.

فبعد أن أمضينا ساعات صباحه -حسب المنهج السائد- بين تدريب وفطور وتهذيب، ومحاضرة ألقيتـُها على جنودي وهم جلوس على أسرّتهم وسط قاعة منامهم، حتى حلّت الساعة الثانية بعد الظهر، إذْ كنت جالساً في المكتب، حين رنّ جرس الهاتف:-

* نعم، تفضلوا.

* مساء الخير… أنا الرائد عبد الله مجيد سكرتير ديوان الرئاسة.

* نعم سيدي تفضل… أنا الملازم صبحي ناظم.

* كيف حالك يا ملازم صبيح؟ تبدو من الضباط الأحداث؟

* بخير سيدي… نعم أنا من الدورة الأخيرة للكلية العسكرية.. وإسمي “صبحي” وليس “صبيح”.

* حسناً يا ملازم صبحي… بعد دقائق سيغادرنا السيد الرئيس نحوكم… فإتخذ ما يلزم من إجراءات.

* حسناً سيدي.

وفوراً طلبتُ حضور عريف الفصيل أمامي… خرجتُ إلى ساحة العرض، وأمرته بتهيئة الجميع حالاً، فالسيد الرئيس في طريقه إلى إلينا.

هرع الجنود كلّ إلى موقعه المحدد قبل أن أقوم بجولة سريعة حواليهم وتأكدت من حسن قيافتهم ومدى إستعدادهم.. أوعزتُ إلى ضابطَي صفّ بمنع السيارات الأهلية من إجتياز الشارع الفرعي لدار الرئيس… ووقفتُ في ركن الثكنة المُطل على شارع المقبرة الملكية إنتظاراً لوصول “الموكب”، شاعراً بقلق واضح، فهذه هي المرة الأولى التي سأكون وجهاً لوجه مع “المشير الركن عبدالسلام محمد عارف” رئيس الجمهورية/القائد العام للقوات المسلحة العراقية.

مرّت الدقائق ثقيلة على كاهلي، أنظر هنا وهناك وأراقب بحذر.. فلا تجمُّع لأشخاص يُريُبني، ولا ما يجلب الظنون على سطوح المنازل العالية والقسم الداخلي لدار المعلمين الإبتدائية، فيما تسير سيارات المواطنين بين ذاهبة وآيبة في شارع المقبرة الملكية، حتى طرقت سمعي، من على بعد، أصوات صافرات لسيارات أو دراجات نارية من تلك التي تستخدمها الشرطة.. ومن مفرق الطرق الثلاثي في زاوية

“حديقة النعمان” شاهدتُ “الموكب” وقد إنحرف يساراً ليدخل شارع المقبرة الملكية.

وقف الجنود الحراس بالإستعداد وتَنَكَّبوا بنادقهم وتهيّأوا للـ(سلام خُذْ).. كانت هناك دراجتان ناريتان بيضاوان يؤشر من على ظهرهما شرطيا مرور إلى أصحاب السيارات بالإبتعاد عن وسط الشارع العام والسير في أقصى يمينه… وإلى خلفهما بحوالي عشرة أمتار يسير “الموكب” ببطؤ ووقار.

سيارة تابعة لشرطة المرور تطلق صفارة وقد أنارت أضويتها الملونة.. ودرّاجتان بخاريتان تسيران بإنتظام أمام سيارة “مرسيدس” سوداء ضخمة وطويلة.. تتبعها دراجتان بخاريتان أُخرَيان، تليهما سيارة صالون إعتيادية كـُحلية اللون، ثم سيارة سوداء تابعة لشرطة النجدة.

إنحرف “الموكب” يساراً حتى الشارع الفرعي الذي كنتُ واقفاً في مدخله… كانت سيارة رئيس الجمهورية واضحة تماماً.. أدّيتُ التحية العسكرية، وكذلك ضباط الصف والجنود الحراس… سار الموكب دون توقف، فسرتُ معه حتى إستقر أمام باب الدار، وقتما نزل “الملازم رشيد علوان المهداوي” ووقف بالإستعداد مؤدياً التحية العسكرية، وقبل أن يفتح رئيس الجمهورية الباب الخلفي الأيمن بنفسه ويترجّل.

ومن السيارة التالية ذات اللون الكحلي، نزل (4) أشخاص يرتدون ملابس مدنية، وقد أهدلوا قمصانهم فوق سراويلهم كي لا تظهر مسدساتهم، وتفرّقوا حول سيارة الرئيس يراقبون مختلف الإتجاهات، وهم -حسبما علمتُ بعدئذ- من “فصيل خاص” مسؤول عن حماية شخص السيد الرئيس، يتألف من (40) جندياً مدرّباً على الرمي الجيد بالمسدسات بشكل خاص والغدارات، يرافق عدد محدّد منهم رئيس الجمهورية لدى خروجه من القصر الجمهوري سواء داخل “بغداد” أو خارجها.

كانت سيارة الرئيس من طراز خاص “مرسيدس موديل 1964” طويلة بشكل إستثنائي، يكفي داخلها لجلوس (7) أشخاص، نشاهدها في بعض أفلام السينما، إذْ تـُطلق عليها تسمية “ليموزين”، ولربما كانت الوحيدة في العراق، سوداء اللون، رُكِّبَتْ فوق واقيتها اليمنى سارية مصغّرة تحمل علماً عراقياً مثلث الشكل صغير الحجم.

وقفتُ بالإستعداد وأدّيت التحية العسكرية، وقدّمت نفسي بالأسلوب العسكري المتعارف عليه أمام السيد رئيس الجمهورية الذي وقف قبالتي بالإستعداد، وهو يرتدي بذلة مدنية كُحليّة اللون، وقميصاً ناصع البياض، وربطة عنق بلون البذلة نفسها.

وحالما دخل الرئيس إلى داره فقد غادرَنا “الموكب” بجملته -وبضمنه أفراد الحماية الخاصة- فغدونا نحن المسؤولون الوحيدون عن مهمة الحماية.

وفوراً سمعتُ -للمرة الأولى- صراخات أولاد رئيس الجمهورية الصبيان وهم يرحبون بأبيهم قرب الحديقة، حتى دفعني الفضول أن أتقدم بضع خطوات إلى مقربة من سياج الدار المنخفض لأرى “عبدالسلام محمد عارف” وقد إنحنى عليهم يبادلهم

القبلات الحنونة، فتعلّق الصغيران التَوأمان “محمد ومحمود” برقبته فحملهما معاً بين ذراعيه إلى داخل البيت.

وتطبيقاً للتعليمات عدتُ إلى مكتبي داخل الثكنة بخطىً سريعة، لأُخبر سكرتير ديوان الرئاسة هاتفياً بوصول السيد الرئيس إلى بيته وعودة “الموكب” في طريقه للقصر، ورجعتُ مُسرعاً لأُراقب مواقع الجنود الحراس المحدّدة، وأطمئن على أوضاع الحماية والشوارع والأسطح المشرفة… فأصدرتُ أوامري بفتح الشارع الفرعي أمام السيارات الأهلية بشكل إعتيادي.

جلب نظري رجل يبلغ من العمر أكثر من (40) سنة، وقد إرتدى ملابس عسكرية حاملاً في نطاقه مسدساً متوسط الحجم من عيار (7) ملم من ذلك الطراز الذي لا يُستخدم في الجيش عادة، وقد حمل على كتفيه رتبة “مقدم”… شاهدتـُه واقفاً أمام باب إحدى الدور المتقابلة مع الثكنة… لم يستغرب عندما تقدمتُ إليه مؤدياً التحية العسكرية حسب الأصول، ومستفسراً عن سبب وقوفه في هذا الموقع:-

* من أنت سيدي؟

* ما هذا؟؟ ألا تعرفني؟؟!! أنا ((المقدم المتقاعد قاسم البرزكان/أبو جيهان))… وهذا مسكني، وأنا صديق مقرب من السيد الرئيس، وجاره منذ سنين، كما ترى.

تبادلتُ معه بعض الحديث مضطراً، وعلمتُ أنه كان قد أُحيلَ على التقاعد قبل (6) سنوات في (تموز 1958)، وذلك قبل أن أرجو منه أن يريح نفسه في تلك الساعات ذات الشمس المحرقة.. ولكنه أبى وأصرَّ على ضرورة ((مشاركتنا)) في هذا الواجب، نازلاً بوابل من المديح لشخص “الحاج عبدالسلام عارف/أبو أحمد”، ذاكراً بعض أفضاله عليه، قاطعاً معي -سيراً على الأقدام- الشوارع المحيطة بالدار والثكنة.. أما أنا فقد شعرتُ بإحراج شديد، ومن دون أن أستطيع عمل أي شيء أو إتخاذ إجراء محدّد يُعيد هذا الرجل إلى بيته طيلة حوالي ثلاث ساعات متتالية.

إقتربت الساعة من السادسة عصراً، وكنت لا أزال خارج الثكنة، والجنود ما برحوا في مواقعهم، وقد أجريتُ بعض التبديل بين أولئك الذين رابطوا في نقاطهم أكثر من ساعتَين بآخرين كانوا في القاعة متهيّئين، وسمحتُ لآخرين بالنزول إلى “بغداد” حسب إستحقاقهم، حتى طرق سمعي صوت رئيس الجمهورية متمازحاً مع أولاده في حديقة البيت.. فتعمدتُ السير قريباً من سياج الدار لأشاهد “عبدالسلام عارف” مشاركاً أولاده بترتيب عدد من الكراسي الخفيفة المصنوعة من “الألمنيوم” والمغطّاة بشرائط من “النايلون” من ذلك النوع الذي كان معظم أهالي العراق يمتلكونها في حدائقهم.

كان الرئيس مرتدياً “بيجاما” صيفية صفراء اللون مقلمة بخطوط خضراء… وبينما جلس الأولاد على الكراسي، فقد فرش “عبدالسلام” سجادة صغيرة ليؤدي صلاة العصر، وقبل أن يتناول الجميع الشاي المهيّـأ على “سماور”.

شددتُ على الجنود بوجوب اليقظة ومراقبة المنطقة المحيطة جيداً، حتى حلّ موعد صلاة المغرب بعد الساعة السابعة بقليل، إذْ جاءني السائق “الحاج أحمد الكرخي” ليخبرني أن “السيد الرئيس” يطلب أن تحضر سيارته لتقلّه إلى القصر الجمهوري، على أن تنتظره في “ساحة عنتر”.

فوجئتُ بالطلب، فـ”ساحة عنتر” تبعد عن الموقع الذي نحن فيه حوالي “كيلومتر” واحد أو أكثر… و”الملازم فاهم مالك” لم يتطرق لمهذا عندما أبلغني يوم أمس بتفاصيل الحماية، ولم يذكر سوى حضور السيارة إلى هذا المكان بالذات… فكيف أتصرف؟

توجّهتُ الى حيث الهاتف في مكتبي، وهاتفت السيد “العميد زاهد محمد صالح” -المرافق العسكري الأقدم- وأبلغته بالأمر.. فلم يستغرب!! ولكنه طلب وكّرر أمره أن أُرافق السيد الرئيس لحين وصوله الى “ساحة عنتر”، وأن يسير معنا بعض جنودي لتأمين حماية سيادته.

إنقضت بضع دقائق قبل أن يخرج “عبدالسلام عارف” من باب داره، لأؤدي له التحية العسكرية المعتادة، ولكنه فاجأني بدخوله الى الثكنة من باب الخروج… سرتُ على يساره متخلّفاً بخطوة واحدة، وتلك هي عادة العسكر.. توجّه الى مكتب ضابط الحماية وألقى نظرة فاحصة عليها وعلى زواياها ومحتوياتها وغرفة المنام والحمام ثم دخل قاعة الجنود، فنهض الجميع إحتراماً له وإستعدوا قرب أسرّة منامهم.. وذلك قبل أن نعود الى الشارع المبلّط داخل الثكنة، ليبادرني بالسؤال:-

* يا ملازم “صبحي”… هل أنتَ راض عن وضعك وأحوال جنودك؟

* نعم سيدي، فلا وجود لنقص يذكر.

* كم عددهم؟

* الموجود الكلي (25)، والحالي (18)، فهناك (7) جنود نزلوا الى “بغداد” عصراً، كما هي العادة يومياً، سيدي.

* إسمعني جيداً -يا ملازم صبحي- قبل كل شيء أُريدك حريصاً عليهم وعلى راحتهم وضبطهم ونظامهم ونظافتهم… وأن لا تأكل قبل ان يأكلوا جميعاً، ولا ترتاح قبل أن تريحهم، ولا تَنَمْ قبل أن يناموا… فبذلك فقط سيحبونك ويتعلّقون بك… فالعسكرية ليست إصدار أوامر فحسب، بل هي حب وإحترام ونظام وأخلاق.. فأنت ضابط قد تخرّجت حديثاً، وعليك أن تتعلّم مثل هذه الأمور جيداً وتتّخذها نهجاً في حياتك اليومية، مثلما تعلّمناه نحن من القادة الذين سبقونا وعملنا تحت إمرتهم في ظروف السلم والحرب.. فمهنة العسكر هي “مهنة الموت”، فلا ينبغي أن تصدّق أن جندياً يقذف بنفسه

نحو الموت في المعركة تنفيذاً لمجرد أوامر أصدرها ضابطه، لو لم يحبه ويتعلق به من صميم قلبه… كُنْ لهم أباً رحوماً وأخاً كبيراً، حتى لو كان هناك فارق عمر بينك وبين البعض من ضباط صفك خصوصاً.

* نعم سيدي… وأنه ليشرّفني أن أسمع مثل هذه النصائح من سيادتك.

سكَتَ “عبد السلام عارف” قليلاً قبل أن يسأل، وكأنه إنتبه الى “لَكنَة” في نـُطقي:-

* من أين أنت يا ملازم صبحي؟

* من “كركوك” سيدي.

* أتركماني أنت أم كردي؟

* تركماني، سيدي.

* بارك الله فيكم.. فأنتم أبطال، وأنتم أولاد “عمر علي”ó بطل “معركة جنين” في “حرب فلسطين”… وقد عانيتم أنتم الأَمَرَّين على أيدي الشيوعيين في “مذبحة كركوك” عام 1959، وقاومتموهم ببطولة ولقـّنتموهم درساً بليغاً بعدها.

* شكراً سيدي، و”اللواء الركن عمر علي” صديق لوالدي وعمّي، ولنا معه صلة قرابة.

* من هو والدك، ومن عمّك؟

* والدي من موظفي مديرية النفط العامة في “كركوك”.. وعمّي الذي قصدته هو إبن عم والدي “العقيد المتقاعد مصطفى عبد القادر”.

* إن كان المقصود “مصطفى بيك” الذي كان آمراً لأحد أفواج المجاهدين الفلسطينيين، فأرجو تبليغ سلامي الخاص له، وأن بابي مفتوح له ولـ”عمر باشا” متى يشاءان ذلك دون قيد أو شرط.

* شكراً سيدي، سأبلغهما بذلك.

* هل يصل الطعام الى جنودك بشكل منتظم؟

* نعم سيدي… وقد وصلت وجبات اليوم في مواعيدها المقررة.

* علي أية حال.. فإذا لم تصل إليهم أية وجبة، فإني أُخوّلك أن تبعث

سائقي “حجي أحمد” بسيارة البيت ليجلب لهم “الكباب” على عددهم، وعلى نفقتي الخاصة.

* شكراً سيدي… فهذه إلتفاتة طيبة من لدن سيادتكم، وسأبلغهم بذلك.

* لا لا… أنا لا أرغب تبليغهم، فذلك يعتبر “مِنّة”.. فمن حقهم عليّ ذلك، فهم يحرسون بيتي ليل نهار… ولولا ظروف البلد لما سمحت لجندي واحد أن يبقى في هذا المكان.

* نعم سيدي، ونرجو الله أن تسير الأمور نحو الإستقرار.

* إن شاء الله تعالى.

كنت أسير مع “عبد السلام عارف” داخل الثكنة ذهاباً وإياباً حتى حلّ ظلام أول الليل، وكانت الساعة قد قاربت الثامنة، وهو يرتدي البذلة نفسها التي حضر بها ظهراً… والحقيقة أنني كنتُ مستشعراً برهبة وإستغراب وبعض السعادة والزهو رغم أن ذراعيّ ويداي كانتا “مُتَبَسْمِرَتَين” على جانبيََّ تماماً… وكيف لا؟ فأنا “ملازم ثانٍ-آمر فصيل” أسير جنباً إلى جنب رئيس دولة العراق وبرتبة “مشير ركن” بمنصب القائد العام للقوات المسلحة… كان نشِطاً في مشيته وحركاته، واضحاً في حديثه، مسترسلاً في أفكاره وطروحاته.

في ذلك الأثناء، بدا رئيس الجمهورية وكأنه قد أنهى حديثه، وتوجّه ليخرج من “باب الدخول” للثكنة، ولكنه توقف ليسألني:-

* قل لي بالمناسبة، هل تعرّفت على المقدم “قاسم البزركان”؟

* نعم سيدي، إذا كنتم سيادتكم تقصدون “أبو جيهان” الساكن في الدار المقابلة.

* نعم تماماً… الآن أُريدك أن تبلغ له سلامي وتقول له أن يكفّ عن مثل هذه التصرفات، فهو ضابط برتبة “مقدم متقاعد” وليس جندياً أو ضابط صف، لذلك عليه أن يحترم نفسه، ولا داعي أن يرتدي ملابس عسكرية ويحمل مسدساً ليظهر شخصه وكأنه يحميني… فالبركة فيكم… والله، فإنه إن لم يكن جاراً لأوقفتُه عند حدّه.

* نعم سيدي، فقد إنتبهتُ لذلك، ولكن رتبته وعمره الكبير جعلاني أخجل من الحديث معه في هذا الشأن.

* لا تخجل، وتحدث معه بأسمي….. وشكراً لك يا ملازم صبحي.

أَسرَع “رئيس الجمهورية” في مسيره بعض الشي وخرج الى الشارع العام، وأمسى يمشي على الرصيف المتاخم لسياج “مدرسة تطبيقات دار المعلمين الإبتدائية”. فسار خلفنا (4) جنود من حَمَلَة البنادق كنتُ قد هيّأتهم مسبقاً لغرض الحماية، حتى إلتفتَ نحونا وشاهدني والجنود، فقال بلهجة أمر:-

* قلت لك شكراً يا ملازم صبحي… عُدْ مع جنودك الى الثكنة.

أعود الى الثكنة؟؟!! وهل يُعقـَلُ ذلك وأترك رئيس الجمهورية لوحده في شارع عام مُــكتَظ بالناس والسيارات؟؟… وكيف لي أن لا أُنفذ ما أمَرَ به “المُرافق العسكري الأقدم” قبل أقل من ساعة واحدة؟؟؟… ولكن، كيف لي أن لا أُنفذ أمراً مباشراً أتلقّاه الآن من “السيد الرئيس” بالعودة الى الثكنة؟؟

كانت الأفكار تتصارع في ذهني كي أتخذ قراراً سريعاً وصائباً:-

* هل أعود الى الثكنة وأترك “رئيس الجمهورية” لوحده؟

* ما الذي يحدث لو إعتدى عليه شخص ما؟

* ما الذي يمكن أن يقع لو حاول أحدهم إغتياله؟… فهو الذي ذكر، قبل دقائق، أن ظروف العراق الحالية هي التي جعلته يسمح لفصيل الحماية بالبقاء قرب داره.

* الأولوية في مهمات قوة الحماية هي حماية شخص “عبدالسلام عارف”.. ولما كنتُ ضابط الحماية أوانئذٍ فإن مسؤوليتي الأولى هي حمايته.

وفوراً، أمرتُ الجنود الأربعة بالعودة إلى الثكنة، فيما قررتُ أن لا أترك رئيس الجمهورية لوحده مهما كانت النتائج، بل أن أسير خلفه ولكن على بُعد، لاسيما وأن من المحتمل أن لا ينتبه نحوي بعد أن حلَّ ظلام الليل.

وضعتُ “السيد الرئيس” ضمن مدى النظر.. وقد سار على الرصيف حتى إجتاز الشارع الفرعي المحاذي لـ”حديقة النعمان” فدخلها من مدخل ركنها القريب… كانت الحديقة ملأى بعشرات العوائل، وقد فرشت نساؤها الأرض بالحصران أو البطانيات القديمة، ونصبوا كراسٍ ومقاعد، وجلس الرجال والنساء يتحدثون أو يتناولون طعام العشاء في تلك الأمسية من الليالي العشر الأخيرات من شهر آب… ومجاميع أطفال وصبية يلعبون هنا وهناك، وكُتَل فتيان يسيرون قريبين من فتيات أنيقات يرتدين ملابس قصيرة -حسب تقليعة الستينيّات- كلّما كان ذلك مُتاحاً، والعديد منهم يتبادلون نظرات حالمة وبعض الإبتسامات المتقابلة مع فتيات أحلامهم.

إخترق “عبدالسلام عارف” الحديقة حتى ركنها القريب من “سينما الأعظمية”، ولربما من دون أن ينتبه إليه أحد أو يكترث به… كنتُ أسير على بعد حوالي (15-20) متراً بحذر شديد وقلق أشد، فأنا لا أحمل غير مسدس واحد مع (26) إطلاقة ليس إلاّ… حتى خرج نحو “محطة الوقود” المتاخمة للسينما، وسار على رصيف “شارع الإمام الأعظم” أمام “كازينو النعمان”… ولـمّا إنتبه إليه البعض من الجلوس، قاموا إحتراماً له، فسلّم عليهم، وردّوا عليه:- “هَلَه هَلَه بالحَجّي” أو “عليكم السلام أبو أحمد”… إستمر بالسلام نحو بعض الأشخاص وواصل المسير حتى بلغ مجموعة دكاكين يتوسطها محل واحد لبيع المعلّبات والبقول وبعض الحبوب وقد عُلِّقَ في واجهته قطعة خشبية مكتوب عليها “وكيل مصلحة المبايعات الحكومية” حيث نهض

رجل كبير السن، يرتدي “دشداشة” بيضاء اللون وإستقبله بحرارة حتى تحاضنا وتبادلا القبلات قبل أن يدفع إليه “صفيحة معدنية” ثـُبّتت عليها قطعة مربّعة من “الإسفنج الإصطناعي” المغطى بقطعة قماش عتيقة… جلس “عبدالسلام عارف” متبادلاً الحديث معه، وأنا ناظر إليه عن بعد محاولاً الإختباء عن ناظريه بين المارين من الناس، وهم بالمئات ما بين ذاهب وآيب… ولكنها كانت دقائق مُتعِبة على كاهلي وسط هذه الجموع من البشر.

أسرع “رئيس الجمهورية” في خطاه، وقد وضع يديه خلف ظهره سائراً على الرصيف بين أُناس ينظرون إليه بذهول، وبين آخرين لا يجلب نظرهم، ووسط أشخاص يحيّونه بالسلام وآخرين لا يكترثون به بتاتاً، وهو متّجه نحو “ساحة عنتر”… ولم تمض سوى دقائق حتى شاهدتُ من على بُعد السيارة الرسمية لرئيس الجمهورية وقد وقَفَت وسط “الموكب” الذي أتى به إلينا ظهر هذا اليوم… حيّاه الجميع بالتحية العسكرية -وعلى رأسهم مرافقه الشخصي- وسط مجاميع من الناس وقفوا وسط “ساحة عنتر” وأرصفته ممّن يحلو لهم مشاهدة مثل هذه المواقف والمواكب، فحياهم بيده اليمنى قبل أن يستقل السيارة… فسار الموكب وسط من يصفق له ويهتف بحياته.

تنفّستُ الصَعداء بحقّ، وأحسستُ تماماً أن خفقان قلبي الذي عانيتُ منه لساعات عديدة، وبالأخص خلال الساعة الأخيرة، قد خفّ، وذلك قبل أن أعود بخطىً سريعة إلى الثكنة لأهاتف السيد المرافق العسكري الأقدم وأتحدث له بمختصر ما حدث… وحمدتُ العلي القدير أن يوماً واحداً -سوف لا أنساه أبداً- قد مرّ بسلام.

ذكريات عبرت أفق خيالي

ذلك ليس عنواناً لأغنية “أُم كلثوم” ذائعة الصيت، بل حقيقة فرضت أوزارها على ذاتي في طريق عودتي الى الثكنة… فبينما كنت اُسرع الخطى فقد أعادتني الذاكرة إلى ما قبل (6) سنوات إنقضت، وقتما سمعنا بإسم “العقيد الركن عبدالسلام عارف” خلال الأيام القليلة الأولى مما سُمّيَ بـ((ثورة 14تموز1958 المباركة والمجيدة))!!!.

ففي صبيحة يوم الإثنين (14تموز1958) كنتُ متمتعاً بالعطلة الصيفية، بعد أن إجتزت المرحلة الثانية من الدراسة المتوسطة بنجاح إلى ثالثتها، كنت فتىً في مقتبل العمر، حين فوجئتُ بوالدي منذ الصباح الباكر جالساً قرب المذياع، مرتبكاً بعض الشيء، وهو يتنصّت إلى بيانات تحتوي عبارات وكلمات لم أفهم مقصدها ومغزاها، و((مارشات)) عسكرية وأغانٍ حماسية لم أسمعها من قبل… حين أوضح لي أن

((إنقلاباً عسكرياً)) حدث في “بغداد” فجر اليوم، وجعل من العراق “جمهورية” بعد أن كان “دولة ملكية” طيلة (37) سنة… وفسّر لي ماهية الجمهورية والملكية.

تأثرتُ من أعماقي لـ”الملك فيصل الثاني” الذي طالما أحببناه وتغنّينا بإسمه وأنشدنا لأجله طيلة (8) سنوات مضت… فيما أُعلِنَ “حظر التجوال” في جميع أنحاء العراق… ولكن لا أحد في مدينة “كركوك” مَنعَنا من التجوال في ذلك اليوم ضمن المنطقة التي كنا نسكن فيها.

وفي اليوم التالي كان والدي قد إقتنى جريدة إسمها “الجمهورية” وقد نشرت صوراً بشعة للغاية لسحل جسد “الأمير عبدالإله” في شوارع “بغداد” وأكدت مصرع جميع العائلة الملكية الهاشمية فإنهمرت الدموع من عينيّ مدراراً أسفاً على “الملك فيصل الثاني” قبل أن أقرأ “البيان الأول” لتلك الثورة… وتوالت الأيام حتى عُلّقت على البعض من جدران المنازل أوراق متوسطة الحجم تحمل صورتين في آن واحد… “الزعيم الركن عبدالكريم قاسم” في الجانب الأيمن “والعقيد الركن عبدالسلام عارف” في جانبها الأيسر.

أما أول مشاهدة لي لشخص “عبدالسلام عارف” فقد كان في ساحة ألعاب “معسكر كركوك”، حين توجّهتُ إليها مع البعض من الأصدقاء لحضور “تجمّع جماهيري” يحضرها “قادة ثورة تموز” الذين يزورون مدينتنا للمرة الأولى… كان “عبدالسلام عارف” مرتدياً الزي العسكري الصيفي، وهو يحمل مسدساً كبير الحجم مشدوداً بقيطان خاكي اللون حول رقبته.. رأيتُه متوسط القامة، رشيق البنية، على عكس ما كان معروفاً عن الضباط من ذوي الرتب العالية الذين كنا نشاهدهم في شوارع مدينتنا، وقد أحاط به أو وقف إلى الخلف منه ضباط كثيرون ذوي رتب مختلفة، وكان من بينهم عمي “العقيد مصطفى عبدالقادر”… وهناك جنود بالعشرات ينتشرون وسط الساحة الكبيرة وحواليها وهم يحملون بنادق طويلة ذات حراب مشدودة في أعلاها، وآخرون من “الإنضباط العسكري” يحيطون بالساحة، بعضهم يحمل مسدسات وآخرون كانوا مسلّحين بـ”غَدّارات”.

مشاهد غريبة إنبثقت إلى الوجود فجأة، إذْ لم تكن مألوفة قبل أيام معدودات، سواءً لدى زيارة “الملك فيصل الثاني” مع خاله “الأمير “عبدالإله بن علي”، أو رئيس الوزراء المخضرم “نوري السعيد” لمدينة كركوك في العهد الذي بات يُسمّى في تلك الأيام بـ”العهد البائد” أو “العهد المـُباد”… وكذلك عندما زارتها شخصيات غير عراقية، حيث كنا نصطفّ بهدوء وإنتظام على جانبي الطريق المؤدي من

محطة القطار الجميلة إلى مركز المدينة ورئاسة بلديتها، لنحيّيهم بأعلام عراقية وأناشيد تتخللها زغاريد النساء والمعلمات وطالبات المدارس.

أما في ذلك اليوم فقد أمسى كل شيء مغايراً لما كان يحصل في السابق.. فجماهير محتشدة ومتحمّسة تهتف للجمهورية والثورة بما لم يطرق سمعنا من قبل… ومجاميع من الناس ترفع لافتات كتبت عليها شعارات غير مسبوقة… وآخرون يدقـّون طبولاً ويعزفون على مزامير ويرقصون بحماس ويهتفون، كل حسب توجّهه السياسي.

وما أن أطلّ “عبدالسلام عارف” من شرفة الملعب الرياضي حتى هرعت الجموع نحوه، وبصعوبة كبيرة سكَتَت أو خفّفت من صياحاتها الفوضوية، لنستمع الى خطاب “نائب القائد العام للقوات المسلحة العراقية” الذي لم أفهم منه شيئاً… لا لشيء، وإنما لأني لم أسمع من يخطب سابقاً… فشخصيات “العهد الملكي” لم يلقوا خطابات في أية زيارة سبقت.

قاطعت “الجماهير الثورية” الخطاب بإستمرار… كان هناك أشخاص بين الجموع يحرّضون الآخرين على الصياح والهتاف… وبين تصفيق دون توقف، لشيء أو للاشيء، وبين هتافات وصياحات ضاع الخطاب، فترك “عبدالسلام عارف” الشرفة مع من كان يحيطه لنعود قافِلين الى بيوتنا بسرعة لئلاّ تغيب الشمس ويبدأ سريان حظر التجوال الذي إنحسر ضمن ساعات الليل فحسب.

توالت على “كركوك” والعديد من مدن العراق أيام عصيبة، إذْ سيطر الفوضويّون والرُعاع وشذّاذ الآفاق وآكلو الأكتاف والعديد من المنافقين -كحال الثورات في عموم التأريخ- على مقاليد الأمور وإستحوذوا على السلطات شيئاً فشيئاً، وخصوصاً بعد أن تفجَّر الصراع بين “عبدالكريم قاسم” و”عبدالسلام عارف” الذي أُعفِيَ من جميع مناصبه نائباً لرئيس الوزراء ووزير الداخلية ونائباً للقائد العام للقوات المسلحة، ليُعيَّن سفيراً للعراق في “بون” عاصمة “آلمانيا الإتحادية/الغربية” قبل أن يقدَّمَ أمام “المحكمة العسكرية العليا الخاصة” التي كان “العقيد فاضل عباس المهداوي” -إبن خالة عبدالكريم قاسم- يرأسها، وحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، وذلك مساء يوم (الخميس/5شباط1959) بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم ومحاولة إغتيال “الزعيم الأوحد”.

ولكن تلكم الإجراءات التي أُتُّخِذَت حيال “عبدالسلام عارف” جعلته يكسب الكثير والمزيد من المحبة لدى مناهضي نظام الحكم القاسمي، حتى أمسى في أعين معظم المناوئين رمزاً لمقاومة الشيوعية وأملاً في تصحيح أوضاع البلد، حتى قرر “عبدالكريم قاسم” الرأفة به وعدم تنفيذ حكم الإعدام بحقّه، وذلك وفاءً منه للصداقة التي ربطتهما قبل الثورة، وكونه من أنشط الأعضاء في “تنظيم الضباط الأحرار”، وقيادته الوحدات التي إقتحمت “بغداد” صبيحة يوم (14تموز1958) وداهمت قصرَي “الزهور والرحاب” وقضت على شخوص نظام الحكم الملكي في العراق.

على إثر ذلك لم يَبقَ “عبدالسلام عارف” في السجن سوى ما يربو على سنتين، حتى أُفرِج عنه، بل أن “عبدالكريم قاسم” أوصله بسيارته بصحبة آمر الإنضباط العسكري “العقيد عبدالكريم الجدة” الى مسكنه هذا… ولكنه أُبقي تحت المراقبة وشبه الإقامة الجبرية في منزله، حتى إنبثقت “حركة (14رمضان) صبيحة يوم (الجمعة 8شباط1963) إذْ عيّن “عبدالسلام محمد عارف” رئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للقوات المسلحة بعد أن مُنح رتبة “مشير ركن”… وبذلك يكون قد قفز (4) رُتَب عسكرية دفعة واحدة.

وخلال الأشهر الثمانية التي مضت من عام (1964) الجاري بشكل خاص، بدا لمعظم الناس -وبالأخص في نظر المثقفين- وكأن العراق أضحى يتوجّه بعض الشيء -ولو بخطوات بطيئة- نحو الإستقرار، وذلك رغم المعارضة القائمة من لدن البعثيين والشيوعيين والمَلَكيّين وبعض القوميّين والناصريّين حيال نظام حكم “عبدالسلام محمد عارف” وشخصه.

وخلال تلك اللحظات، كنتُ قد وصلتُ الى الشارع الفرعي المحاذي لدار رئيس الجمهورية، حيث لاحظتُ أن عريف الفصيل قد قام بسحب الجنود الحراس من مواقعهم عملاً بالنهج المعتمد، ولم يُبقِ خارج الثكنة غير جنديي الحراسة في بابَيها مع ضابط الصف المسؤول عن مراقبتهما.

جلستُ في مكتبي مرهَـقاً بعد طول عناء لأتمتّع بقسط من الراحة قبل أن أتناول طعام العشاء، وأتأكد من جدول توقيتات الحراسات وأسماء الجنود الذين سيكلّفون بالواجبات الإعتيادية ليلاً، وأن الجميع قد إنتهوا من تناولهم طعام العشاء، قبيل أن أغُطّ في هذه الليلة الثانية من الواجب بنوم يَقِظ وحَذِر، تخلّلتها (3) طلعات تفقدية لأتأكد من يقظة الجنود وهدوء المنطقة.