8 أبريل، 2024 9:05 ص
Search
Close this search box.

وقائع محنة سلة التمر …!

Facebook
Twitter
LinkedIn

لكي تعرف طباع الحياة عليك أن تعرف طباع الجنود ، هكذا علمتني الحرب وهي في حكم وجودها تبدو أمرا قسريا بالنسبة لي ، فكيف يتمنى من يحلم بالنوم تحت أجفان رومي شنايدر ويغفوا قرب خصر نبيلة عبيد أن يلبس قبعة ليست على قياسه ويرغم بعد التخرج مباشرة على الذهاب إلى قصر شيرين ومن ثم يدفعونه إلى المتقدم في مرصد فوق جبل لم تنم به عشبة واحدة يسمونه جبل ( سنجاب ) .
في سومر التي أهجع أليها كلما أردت أن أتذكر أمي ، كان الجنود موظفين في موسم واحد تحدده الالهه وهي تشير على الملك أن يبدأ حربه ضد سلالة ما وكانوا يعتقدون أن العودة ضربا من الخيال ، ويقال أن المتزوج منهم ينصح زوجته أن داهمتها رغبة الاقتران برجل بعد الترمل أن تقترن بفلان من الناس.
إذن في حرب سومر كان الموت هو الاحتمالات كلها ، واليوم في الحرب تتعدد الخيارات ودائما كان الجنود الذين يرتدون الأمل مع أقراص الهوية ويقولون لزوجاتهم أن ينتظرن إلى الإجازة القادمة ، وعندما تحترق نماذج الإجازات بفعل الجمر المستعر لشظايا القصف ويكون هو أول الضحايا تحتار الزوجة الشابة إلى أين تذهب وليس معها سوى الجنين الذي لم يزل في بطنها يعدو مثل ريم الفلا غير دارٍ بفجيعة اليتم ، غير أن الأمر يحسم سريعا عندما يقرر أهل الزوج تزويج أرملة الفقيد لواحد من إخوانه حتى لو كان متزوجا وتلك واحدة من الغرائب التي أفرزتها الحرب التي طالت كما تطول أغاني أم كلثوم في سهرات بعد منتصف الليل عبر إذاعة القاهرة في الليالي المتجمدة للشمال الذي عقد مع الجنوب وفاقا أدام في رؤى الجنود افتعال الحدث ليكتبوا رسائلهم الساذجة بحروف متعثرة الإملاء وخواطر بريئة مضحكة مثل التي يقول فيها عريف ربيتنا لخطيبته في أخر رسالته له قبل أن يتمتع بإجازة الزواج : اذكريني كلما غنى ياس خضر : أعزاز والله اعزاز….!
في الحرب الموت هاجس يلاصق ظلكَ أين ما ذهبت حتى يصبح مثل الراتب الذي تعتبره من الاستحقاقات التي لولاها لا نستطيع أن نتكيف مع كل هاجس تأتي به الليالي التي لم يمر على بالنا إننا سنعيشها يوما ما فتصور المشهد :
انك ولدت في نك ولدت في أور التي كانت في الأمس نحاطة ببطائح مائية يسمونها قبل التجفيف : قرى الأهوار.
في اور، هناك الريل الذي يأتي في صباحات الحلم الستيني حاملا أشجانه اليسارية ( كراريس جيفارا وروايات سارتر وكامو وغائب طعمة فرمان) . لتقرأها مبكرا ، أنت ابن من ارتضى ليكون راتبه تسعة دنانير ، حيث لا شيء في مائدة الفطور سوى بيضتين لخمسة أنفار وأرغفة سمراء تتذوقها أمك قبلكم كي لا تكون مسمومة ، فالحكومة وزعت على الفلاحين حنطة معفرة بالزئبق السام ليزرعونها ، لكنهم باعوها أو أكلوها بفضل أزلية الجوع التي ورثناها من تعاقب الحكومات ونحن نردد بالفطرة بيتا شعريا لشاعر فرنسي اسمه بيار جان جوف يقول : ( الجوع قاس كالنساء العاريات ).
هذا ما أورثته لنا سومر وهي التي تتعدى بأحلامها حدود البلدية لتبني لنا فردوسا مفترضا اسمه دلمون ولكني كنت حتى في غمرة الاشتباك في الحروب القديمة أتساءل أين هي دلمون وكيف الوصول أليها ؟ فكان رد الجنود الذين لا يدركون رؤاي الضحك ثم قالوا : تجدها هناك وراء الوادي . وكنت اعلم أن ليس وراء الوادي سوى حقل الألغام.
أذن كان كل سكان ربيئة ثدي الغزال يتندرون على ما كنت تظنه فردوسا يجابه الحرب التي أعلنوها في رغبة منهم لجعل الجنوب يقاتل جنوبه وحتى عندما أخذوك في سيارة الايفا إلى أعلى نقطة فوق مستوى سطح البحر في وطنك وهي قمة بشتكه ، كانوا يريدون أن يقتلوا تلك الرؤى التي أردت بها أن أصنع دمى الآلهة وأغري بها فتيات المحلة ، لتختار الأجمل والأصفى والأرق وعندما وجدتها وكتبت لها انك في أول راتب بعد التخرج ستشتري لها خاتم الخطوبة لكن الحرب تؤجلنا دائما إلى ما بعد الغيب ك�عد الغيب كما يقول أندريه مالرو ، وهذه المرة كان غيبها نعوشا لا تحصى ، اخوة ، وأصدقاء شعراء لم تكتمل فيهم حداثة المفردة تركوا أوراقهم عرضة للتشهير في دفاتر ذكريات وآخرون ذهبوا حتى وهم لم يشاهدوا في حياته عريا لأنثى من زجاج كل ما عرفوه ( أن أمهاتهم قلن : يا علي ، والشمال قال لهن هاتوهم ألي ).
أخذهم الشمال وفي ذلك فعل ترتضيه الحرب كوجه من وجوهها القاسية ، انه كما تقول الألواح : ( السيف الذي يكتمل انتصابه في أحشاء الجنود ) وقد اكتمل فعلا في أحشاء من عشت معهم ، كان أكثرهم ثقافة أذا أراد أن يكتب لمن يهواها مكتوبا يقول لها ( احبكي هكذا ، ولا يقول لها احبك هكذا ، وهي الأصح ) .
تفترض الحرب لها مكانا في قلوب الجنود دون أن تهتم بالشعور الذي يكنه الجنود أليها بالرغم من إنها تعلم بكره الربايا لها ، إلا أنها كانت تمارس علينا نرجسية مفتعلة ، وتنسب أليها فضل كل ما ننتجه من إبداع وهي تمتلك الحق في بعض من هذا الطرح ، إلا أنها كهاجس حضاري تعتبرُ جنونا لا تدري من جعله ديمومة وجودية تعيش في م تمنيت أن أمر على واحد من أعوام في التاريخ ليس فيه حرب ، وعندما لا أجده اطبع ذاكرتي على منادمة الكتب والقصائد فهي وحدها من تجعلنا غير مهيئين لننحني أليها ونقول بنفاق واضح : ( يا آهلا بالمعارك يا بخت مين يشارك ) ، وهكذا كان ثدي الغزال منطقة كانت تشتعل فيها خواطر الروح ويذوب الثلج على قصائد الجنود الذي مسكناه بأيدينا وأسنانا ، فقد كان هو خيط الأمل الذي ينجينا من أمر تفرضه الصولة ، وفيه ترغم أن تتقدم حتى لو كانت بندقيتك من دون رصاص فلقد كان الموت ينتظرك دائما خلف الكواليس وينظر إليك كيف تمثل وعندما لا تحسن أداء دورك يقضي عليك بشظية مدفع أو رصاصة قناص يتسلى بك عبر ناظوره مثلما يتسلى الصياد برقص السمكة وهي في شبكته.
الآن وداعا أيتها المساءات التي يداهمها برد قلوبنا تلوذ بمعطف الشمس لتصور لنا موتنا الأعزل والحكايات التي لا تمل واحدة منها أن عريف ربيتنا المعجب بأغاني ياس خضر اكثر من إعجاب البرازيليين بكرة القدم ، كان قد اخذ إجازة زواج ليقترن بالمرأة التي فتعيش التي تعيش الآن في قضاء أبى الخصيب ، غادر الربيئة مبتهجا مثل القبرة عندما تسمح لها الحرب بالطيران بعد نهاية فصل القصف المتبادل ، وحين وصل إلى مدينته فاجأته الفاجعة فقد دهست سيارة أمس جسد الفتاة.
عاد منكسرا وفي عينيه قناعة معبئة في سلة التمر الذي وزعه علينا ثوابا على لروحها المسافرة جراء طيش سائق عجلة ، وحين وصل قربي همس بصوت باك : كان موت الحرب أهون ألف مرة من ذلك الموت الساذج الذي سرق أحلامي بدورة عجلة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب