في السياسة العراقية أعاجيب كثيرة وألغاز تستعصي على الفهم، فليس غريبا فيها أن تشاهد رفيقا بعثياً كان ينادي بحياة (القائد الضرورة) يصبح بعد الإحتلال طائفيا يدعو لاستئصال الآخر وقتله ويعتبر السفاح (أبو درع) بطلا كفالح حسون الدراجي، أو رجلا قضى شطرا كبيرا من عمره في استدعاء الإحتلال واستجلابه لبلاده يتحول إلى (خصم عنيد) للتدخل الأجنبي كأحمد الجلبي، أو معمم يتقافز ذات اليمين والشمال ويوظف نصوص الدين لخدمة مصالحه الخاصة كخالد الملا، أو كاتبا يبيع قلمه ومبادئه لمن يدفع أكثر (وهؤلاء أكثر من أن يحصون ) .
من هذه الشخصيات التي تثير الكثير من علامات الإستفهام حول تاريخه والأدوار السياسية التي لعبها في الماضي ويحاول تمريرها اليوم اللواء الركن وفيق السامرائي مدير جهاز الإستخبارات في عهد النظام السابق (يقدم في وسائل الإعلام على أنه فريق ركن)، والذي هرب من العراق عام 1994 وأصبح معارضا لصدام حسين، وظهر في أيام الإحتلال الأولى مبشرا بمشروع غامض الملامح لا هوية له، ولعل من المناسب أن نلقي قليلا من الضوء على شخصه وتاريخه.
ولد وفيق السامرائي في سامراء عام 1947 ، وتخرج من الكلية العسكرية ليلتحق بالجيش العراقي، متدرجا في رتبه حتى وصل إلى رتبة لواء ركن، وترأس جهاز الإستخبارات حتى أحيل على التقاعد عام 1991، ثم أصبح المدير العام لمكتب رئاسة صدام حسين، وخلال تلك الفترة كان عضوا مهما في الفريق المقرب من صدام حسين، وأوكلت إليه مهمات خاصة جدا أثناء الحرب العراقية الإيرانية وما بعدها تكشفت أوراقها فيما بعد، لكنه قرر في نهاية عام 1994 الهروب من العراق عبر إقليم كردستان، وبدأ في إعلان معارضته للنظام السابق وانضم في البداية إلى المؤتمر الوطني الذي يترأسه أحمد الجلبي، وبدأ في الاعداد لعمليات مشاغلة للجيش العراقي انطلاقا من شمال البلاد، لكن جهوده هذه باءت بالفشل فاضطر إلى ترك العمل مع المؤتمر وتشكيل حركة سياسية بقيادته أطلق عليها (الحركة الوطنية العراقية) قبل أن يغادر العراق إلى لندن مؤسسا حركة باسم (المجلس الأعلى للإنقاذ الوطني)، ثم يتنقل بعدها في عدد من العواصم الأوربية بالإضافة إلى عمان ودمشق، عارضا خدماته والمعلومات التي يعرفها عن الدولة والجيش العراقي للاستخبارات الأمريكية وعدد من أجهزة المخابرات الغربية محرضا على احتلال العراق بحجة إسقاط النظام، لكن ذلك لم يشفع له لدى أساطين المعارضة من الشيعة والأكراد، أو حتى لدى الأجهزة الأجنبية التي منحها هذه المعلومات دون أن ينال منها شيئا.
عاد بعد الإحتلال الأمريكي للعراق مبشرا بمشروعه طارحا نفسه كزعيم (وطني) ذي خلفية عسكرية، إلا أن النخبة الشيعية الحاكمة كانت ولا تزال تتوجس خيفة من كل سني يمكن أن يشكل نفوذا تتصور أنه يشكل خطرا عليها وعلى مشروعها، فتم إقصاءه عن أي منصب ذي تأثير، وعيّن في منصب (شرفي) كمستشار أمني للرئيس السابق جلال طالباني عام 2005، لكنه أقصي من هذا المنصب الخالي من أي صلاحيات في عام 2008 بعد اتهامات له بممارسة عمليات قمع ضد الأكراد والشيعة اثناء ترؤسه لجهاز الإستخبارات، ليغادر العراق ويتفرغ للظهور في الفضائيات مع كل حدث أو أزمة تمر بها البلاد.
ولعل المطلع على سيرته حتى مغادرته الأخيرة للبلاد يستغرب من حجم التناقضات التي يحملها هذا الرجل في مواقفه وتصريحاته السياسية، فقد تحول من حليف للأكراد ومستشارا لطالباني إلى خصم لهم ومحذر من تطلعاتهم الإنفصالية وكأنه لم يكتشف هذا الشيء إلا بعد طرده من منصبه، ومن منتقد لسياسات سيىء الذكر نوري المالكي إلى مدافع عنه؛ خاصة بعد اندلاع أحداث الحراك الشعبي السني، كما عرف عنه بأنه صاحب عقدة نفسية في التقارب مع أي تشكيل عربي سني خوفا من ان يوصم بـ(الطائفية) من قبل حلفاء الأمس الذين لم يحصل منهم على أي شيء، وكان يتجنب طيلة فترة حكم المالكي وما بعده الإشارة إلى اي اضطهاد ممنهج يمارس في حق السنة، رغم أنه كان قريبا من المطبخ السياسي ويعلم حجم الظلم الذي أصاب السنة وعلى كافة المستويات، ولم يسجل له طيلة تلك الفترة اي موقف في الوقوف إلى جانب المعتقلين أو الأرامل والأيتام رغم ضخامة الراتب الذي كان يتقاضاه.
ومنذ بداية الحراك السني وتفاعل الجماهير معه بدأ وفيق حملته المنظمة عليه وعلى قياداته متهما إياهم بالارتهان لأجندات خارجية ومؤامرات تحيكها بعض الدول (لعلها ليست تلك التي رهن نفسه لها منذ هروبه من العراق)، وهاجم فكرة الإقليم التي طرحتها بعض قيادات الحراك، معللا ذلك بأنها خطوة في طريق تقسيم البلاد، رغم أن من طرحوها كانوا وما زالوا يؤكدون أنها نظام إداري يهدف للحد من تجاوزات سلطة المركز على المحافظات، ويعلم وفيق قبل غيره أن الأقلمة لو طبقت بشكل صحيح لما وصلنا إلى هذا الحال الذي أصبحت فيه المليشيات وداعش تعبث بأرضنا وأمننا وتريق دماء أبنائنا ليل نهار، كما أنه اتهم إقليم كردستان بدعمه لانتفاضة السنة العرب وإرسال مبعوثين إلى سامراء والرمادي والموصل، قائلا أن الأكراد يريدون دفع قوات البيشمركة إلى حافات بغداد الشمالية وقضم مزيد من الأراضي لصالح الإقليم.
ويبدو واضحا أن السامرائي وطيلة تلك الفترة كان يمارس هواية عرفت عنه منذ خروجه الأول من العراق وهي تقديم نفسه لأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية كشخصية عسكرية يمكن أن تلعب دورا في السياسة العراقية، لكن أحدا من هؤلاء لم يتفاعل معه أو يلبي بعض طموحاته حتى؛ لإدراكهم أن الرجل مسكون بـ(عقدة البحث عن المناصب) وأنه يرتدي في كل حقبة قناعا جديدا، وأن صوته يعلو دائما في صف من يدفع له أكثر، مهما كانت مواقف هذا الطرف السياسية أو سجله السيىء في مجال حقوق الإنسان، وهو ما أصبح أكثر وضوحا بعد تفجر حمام الدم الأخير في البلاد.