14 أبريل، 2024 1:25 ص
Search
Close this search box.

وفاءاً للراحل عز الدين الكيلاني!

Facebook
Twitter
LinkedIn

من أروع ما كتبه الراحل مصطفى الرافعي في كتابه من وحي القلم (2/127):
أفرأيت أنت الغنى عندما يدبر عن إنسان ليترك له الحسرة والذكرى الأليمة؟ أرأيت الحقائق الجميلة تذهب عن أهلها فلا تترك لهم إلا الأحلام بها؟ ما أتعب الإنسان حين تتحول الحياة عن جسمه إلى الإقامة في فكره!
وما هي الهموم والأمراض؟ هي القبر يستبطئ صاحبه أحيانا فينفض في بعض أيامه شيئا من ترابه!
رأيت العروس قبل موتها بأيام، فيالله من ‌أسرار ‌الموت ورهبتها! فرغ جسمها كما فرغت عندها الأشياء من معانيها! وتخلى هذا الجسم عن مكانه للروح تظهر لأهلها وتقف بينهم وقفة الوداع!
وتحول الزمن إلى فكر المريضة؛ فلم تعد تعيش في نهار وليل، بل في فكر مضيء أو فكر مظلم!
يا إلهي! ما هذا الجسم المتهدم المقبل على الآخرة؛ هو تمثال بطل تعبيره، أم تمثال بدأ تعبيره؟
لقد وثقت أنه الموت، فكان فكرها الإلهي هو الذي يتكلم؛ وكان وجهها كوجه العابد عليه طيف الصلاة ونورها. والروح الإنسانية متى عبرت لا تعبر إلا بالوجه.
ولها ابتسامة غريبة الجمال؛ إذ هي ابتسامة آلام أيقنت أنها موشكة أن تنتهي! ابتسامة روح لها مثل فرح السجين قد رأى سبحانه واقفا في يده الساعة يرقب الدقيقة والثانية ليقول له: انطلق!
نعم إنه الموت، ففي هذا الكون الواسع البديع هنالك الكثير من الأسرار الكامنة في الإنسان والحيوان والجماد وتحت الأرض وفوقها، وفي أعماق البحار، وبطون الجبال، وأعماق الصحراء، ولكن يبقى الموت هو السر الأكبر الذي حير الكثير من الفلاسفة والحكماء، الذين حاولوا معرفة حقيقة الموت ومصير الإنسان بعد أن تفارقه الروح الجسد!
وكان من فضل الله على الناس أن أرسل المرسلين ليبينوا للناس حقيقة هذا اللغز، وأن الإنسان بعد وفاته يعود إما لنعيم مستقر أو عذاب مستقر، وكل حسب إيمانه وأعماله الصالحة والطالحة.
الرحيل عن الدنيا مصير كل إنسان مهما علا منصبه، وملك من أموال وعلوم ونساء وقصور، وقد غيب الموت الكثير من الناس منذ آدم عليه السلام وحتى الساعة، وستبقى هذه آلة الموت تسحق الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))الرحمن(26-27 ).
والحق أنه ليس من الهين الكتابة عن شخصيات صافية ونقية غيبها الموت في لحظة من لحظات هذا الزمن الذي صار فيه فايروس كورونا يتخطف الناس ليلا ونهارا!
وقبل شهر تقريبا غيب الموت الشيخ شهاب البدري العالم الجليل في محافظة ديالى وإمام وخطيب جامع الشاهبندر بمدينة بعقوبة، وقد مات في مهجره بمدينة كلار، وحينها اتصلت بالشيخ الراحل عز الدين إبراهيم الكيلاني لتعزيته للتصاهر الموجود بينهما، ولم يدر في خلدي أن ذلك الاتصال سيكون الأخير بيني وبين الأخ والصديق والمعلم عز الدين الكيلاني!
تبادلنا حينها الحديث عن الكثير من الذكريات، وتحدثنا عن الزمن الجميل والزمن التعيس، وختمنا الاتصال بكلمات طيبة ستبقى محفورة في ذاكرتي!
سمعت أن الشيخ عز الدين طريح الفراش لإصابته بفيروس كورونا اللعين، وكنا نأمل أن يتجاوز المحنة رغم قساوتها، ولكن إرادة الله قضت أن يغادر الكيلاني هذه الدنيا الفانية!
اختطف الموت الشيخ عز الدين الكيلاني هذه المرة وقد بقي طريح الفراش لشهر كامل تقريبا، وقد حاولت الاتصال به خلال مرحلة مرضه لكن محاولاتي باءت بالفشل لأن المرض قد أنهكه وأرهقه!
تعود ذكرياتي مع الراحل إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث جمعتنا المجالس النقية، المليئة بالصفاء والنقاء رغم قساوة أيام الحصار الدولي المضروب على العراق بعد غزو الكويت!
كنا نزوره في بيته المجاور لمسجد قرية السادة بمدينة بعقوبة التابعة لمحافظة ديالى، وقد منع حينها من الخطابة وبقي على هذا الحال، لعدة سنوات.
يمتاز الراحل بطلاقة الوجه وبترحيبه بأحبابه بمودة نادرة، وكان يكرر كلمة : (يا مراحب يا مراحب)، وكان جميلة ولذيذة من حنجرته المميزة والمطرزة بالنقاء القلبي والصفاء الروحي!
انعكست تربيته العائلية القروية والدينية على علاقاته الإنسانية فكان طيب المعشر، يمتاز بالصبر والثبات والهمة تماما مثل نخيل قريته، وبساتين أهله!
يعد الكرم صفة ملازمة للشيخ الكيلاني، فكنا نزوره في بيته ليلاً، ورغم أن الوقت متأخر بعض الشيء كنا نطلب منه أن نتناول (الخميعة) وهو طبق عربي شرقي بدوي أصيل ويعرفها البدو في الأردن والسعودية والعراق، وهي عبارة عن حليب يثرد فيه الخبز ومعه السكر، وكان يضيف معها التمر المخلوط بالبيض وبالزيت البلدي!
بعد الاحتلال كان موقف الراحل واضحاً وبلا أدنى تردد فقد وقف ضد احتلال العراق، وكان يدعو إلى ضرورة خروج القوات الغازية بكل السبل المشروعة.
وفي العام 2013 كان الراحل من فرسان سوح الحراك الشعبي في ديالى الذي استمر لأكثر من عامين في ست محافظات احتجاجا على سياسات الحكومة الطائفية الانتقامية، وقد كان صوته مدويا ورافضا لكل أشكال الظلم والتهميش والتخريب!
وقد دفع الشيخ الراحل ضريبة هذه المواقف النبيلة، وحاولوا مرارا استهدافه، ولهذا نُصح بتغيير مكانه وهاجر إلى مدينة أخرى، وأجبر على ترك ديالى التي أحبها وأحبته، وبعد سنوات قليلة عاد إلى بعقوبة لأنه لم يحتمل آهات ترك المنبر والاقتراب من الناس، ولهذا قرر العودة رغم التحديات ولكنه عاد هذه المرة إلى جامع آخر!
عاد الشيخ الكيلاني إلى جامع الإمام الشافعي في منطقة المفرق بمدينة بعقوبة، رغم كل التحديات الأمنية والضغوطات السياسية إلا أنه وبحكمته تمكن من إعادة الروح إلى الجامع بعد أن هجره غالبية الناس نتيجة لتغول القوى الشريرة في المحافظة.
كانت خطب الراحل في جامع الشافعي تنتقد الأوضاع السلبية في البلاد رغم كل محاولات الترهيب إلا أن إيمانه العميق بضرورة قول كلمة الحق كانت هي التي تدفع الراحل لمواجهة الإرهابيين وتوعية الجماهير بخطورتهم ومخططاتهم الشريرة.
عرف الشيخ بدروسه العلمية الواضحة والتي تعالج الواقع وتساهم في البناء والعطاء ونشر المحبة والتسامح والألفة بين الناس من كل المذاهب والطوائف.
وقد عرف أيضاً بحبه للخير وقبل أيام من ظهور نتيجة إصابته بالفيروس الخبيث كان مستمرا في فعل الخير وتشجيع المحسنين لمساعدة الفقراء والمعوزين وعوائل المعتقلين.
وقد ذكر أحد الأصدقاء من ديالى:( كنت عنده في جامع الشافعي، وهو مصاب بفيروس كورونا، ولم يعرف نتيجة مسحة فحص الفيروس بعد، وأخبرته بوضع زوجة معتقل في المدينة، وبأنها لا تملك المال الكافي لإجراء عملية جراحية عاجلة، وأنا أشرح حالتها: دمعت عيناه، وقال لي ستجري العملية وسنعطيها المبلغ المطلوب، وفعلاً سلمني مبلغ العملية لإيصاله لزوجة المعتقل)
وللفقيد العديد من المشاريع الخيرية التي يساعد فيها الفقراء من أهالي مدينة بعقوبة وما حولها.
وفي ساعة من هذا الزمن المليء بالكثير من الخوف والرعب والموت والأمراض مات الشيخ عز الدين الكيلاني، يوم الأربعاء 23/ رمضان/ 1442 هـ، الموافق 5/5/2021!
لقد بكت على الراحل جموع المصلين الذين تلقوا الخبر بحزن وألم وثبات، وقد نقل لي أحد المصلين أن صوت البكاء في صلاة العشاء في يوم وفاته كان يملأ أركان المسجد!
وبكى عليك يا أبا مصطفى القريب والبعيد لعل دموعنا تكون شهادة على نقائك وصدقك عند الرحمن الرحيم!
وقد صدق الأصمعي حينما أنشد:
من لا يمت عبطة يمت هرمًا …. ‌الموت ‌كأس والمرء ذائقها!
قال ابن الأعرابي: لا يسمى الكاس كأسًا إلا وفيها الشراب. يقال: مات فلان عبطة، أي صحيحًا شابًا؛ بالباء الموحدة والعين المهملة.
ويقول العلماء (وعلى كل حال فأن ‌الموت ‌كاسٌ لابد أن يردها الخاصُّ والعام، ولا يبقى إلاّ ” وجه ربك ذو الجلال والإكرام ” فالمتحتم حينئذ تلقي أمر الله تعالى بالقبول والرضى، ” فإنا لله وإنا إليه راجعون ” فيما قدر وقضى).
رحمك الله يا شيخ عز الدين، أيها النقي التقي الحبيب، واسأل الله لك الرحمة ولمحبيك الصبر والسلوان!
dr_jasemj67@

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب