إعتدنا منذ قرون أن يحكمنا السلطان الغاشم ، وإن حكمنا المستبد العادل، فهي أقصى أمانينا ، وهذا ما لا يجود الزمان به ، إلا مرة واحدة في كل مائة عام، هذا إن حصل، ومما زاد الطين بلة ، إفتراق أهل السيف (السلاطين)عن أهل القلم (صناع الفكر)، فالصنف الأول ، واقعيون، يتشبثون بعروشهم بكل الوسائل ، ويعرفون كيف يلتهمون الغنائم ، ويرمون بالفتات للأتباع، وأهل الفكر مثاليون ، حالمون، يبنون أبراجهم فوق السحاب ، لايحسنون غير الخطب العصماء ، وتعداد مناقب السلطان في العلن ، ومساوىء حاشيته في الخفاء.
يعمد السلطان الغاشم على تجهيل الشعب ، وسد منافذ الفكر أمامه ، فحيثما إلتفت المواطن المغلوب على أمره ، يرى صورة (سيد الوطن) أمامه وبمختلف الأحجام والأزياء ، يتقن صنعة الفرعون ، فيشغل مواطنيه بالحروب والصراعات الداخلية ، فيصبح بقاؤه على سدة الحكم ضمانة الإستقرار، ورحيله يعني الفوضى والدمار، حدل المجتمع بطغيانه ، وجرّف قيمه وتقاليده وأعرافه ، وهرّأ نسيجه الإجتماعي ، ودق إسفين الفرقة والتناحر والإستقطاب بين أبنائه ، وصحّرعقولهم ، وطمس شعلة أفكارهم، وأجهض أحلامهم ، وحل طغيانه في الشعب فأصبحوا طغاة صغارا من حيث لا يشعرون.
دجّن أهل الفكر والثقافة، فأصبحوا في الغالب، يؤمّنون على دعاء السلطان ، ويعبّرون أحلامه، ويفكون طلاسمه، ويشغلهم وهو الماهر بالمكر، من خلال تحريش بعضهم ببعض ، وأقربهم إليه ، من يرّكب له فكرا خرافيا مخدرا يسقيه لعامة الشعب ، كي لايفيق من رقدته الطويلة .
ومن رأى منهم السلطان عاريا من الفضائل المدعاة ، وأبصر سوءاته الفكريه ، وعيوبه الحضارية، فهو خائن للوطن ، جاحد لمكرمات سلطاننا الغشوم، مصيره الموت الزؤام ، أوالسجن الطويل ، كي لاتصيب عدواه أبناء الوطن الطيبين المخلصين.
لايؤمن سلطاننا الغشوم ، بغير القوة العمياء ، لفرض مايراه ، فهو لا يحّدث مشاريعه الفكرية أو رؤاه السياسية، وبعد تعاقب سنينه العجاف، وتتابع ثلاثية الخراب والفساد والدمار ، التي أينعت ثمارها المرة على يديه. تجاوزه الزمن فأمسى ديناصورا ، بقاؤه خلاف منطق الأشياء ، فأصبح تغييره مهمة دولية ، بعد أن وصل ضرره وأذاه ، معظم أرجاء المعمورة.
يقع الشعب المسكين بعد ذهابه بمتاهة، تكاد تودي بوحدته ، وإخوته الوطنية ، لأنه إختزل الوطن بشخصه، وغيّب مؤسساته الضامنة للسلم والإستقرار، وجذّر القابلية للإستعمار في بني وطنه، وتركهم في مهب الريح ، بل في عين العاصفة في ظل شراسة الأطماع الأقليمية والدولية بثرواتهم ، وموقعهم الجيوسياسي.
على الرغم من مرور عشر سنوات على رحيل جلاده ، إلا أن الوطن لازال يأن من تراكم تركته الثقيلة ، في ضوء غياب أهل الفكر البنّاء عن عالم السياسة ، ولاسيما حين ملأ الساحة الفارغة المقامرون والنفعيون ، وغاب البناة الإستراتجيون.
ما أحوجنا اليوم الى السياسي المفكر الذي يفك ألغامنا الفكرية والإجتماعية ، ويحل معاضلنا الإقتصادية والحضارية ، ويمنحنا أملا في الغد الذي سنرسمه معا، يمتلك تخطيط (مهاتير) الطبيب الذي حير أعظم العقليات الإقتصادية في العالم ، وبنى بلاده الفقيرة ماليزيا، وجعلها في بضع سنوات من النمور الآسيوية المنتجة، وسلمية ( مانديلا الأفريقي ) الذي طّهر شعبه من الأحقاد والإنتقام ، وعصامية (لي كوان يو) السنغافوري الذي نقل بلده من العالم الثالث الى الأول .
ولرب قارىء يعترض بقوله، ألا يعد هذا إستغراقا في الأحلام يتجاوز الواقع ، فهؤلاء ليسو عربا ، ونحن نختلف عنهم ، بيئة وتاريخا وملابسات، أقول أقرؤوا تاريخهم وأزماتهم ، سترون أننا أهون منهم في المعضلات وأقدرعلى تنضيج الخيارات.
أما أهم المواصفات المطلوبة في السياسي المفكر ، فهي إمتلاكه لرؤية بناءة فذة ، تراعي الخصوصية العراقية، يؤمن بالعمل المؤسسي ، لايدور حول ذاته، ولاتحركه أطماعه ، تصديه للشأن العام مسؤولية أخلاقية ، يفكر بعقلية رجل الدولة الذي يحاول أن يؤمّن مستقبل الأجيال ، ولاتشغله مقامرات الساسة الإنتخابية ، ولاصراعاتهم المرحلية ، يتقمص شخصية المؤسس لبنية الوطن الجديد، ويمهد الطريق لساسة الجيل الثاني الذين سيأتون من بعده يكملون مسيرة التنمية .
حلت فيه بعضا من خصال كبار الساسة البناة،فأخذ من (فيصل الأول) إستيعابه المجتمعي،ومن(السّعيد) براغماتيته ومرونته السياسية ،ومن (قاسم) نزاهته ، لذا فعلى من يجد في نفسه الكفاءة الفكرية ، والنفسية السوية ، أن لايضّيع الوقت ، ويسارع بالتقديم، ليتسنّم ، وبفخر، الوظيفة الجليلة الكبرى (السياسي المفكر) .
إضاءة : أنا لا أقرأ رسائل الشتم التي توجه إليّ ، ولا أفتح مظروفها ، فضلا عن الرد عليها ، لأنني لو إشتغلت بها، لما قدّمت شيئا لشعبي (ابراهام لنكولن، الرئيس الأمريكي 1805- 1865م).