كنت في الأسبوع الماضي مع مجموعة من الأصدقاء في زيارة لصديق لتعزيته ومواساته على فقدان أبن أخيه والكثير من أقربائه وجيرانه بالإضافة لإصابة والده وأخيه في حادث تفجير مجلس عزاء مدينة الصدر الأخير. لم يكن هناك مانتقاسمه سوى أقداح الشاي وبعض المعجنات وهم الوطن الذي يتبخر بين أيدينا بدواع طائفية والقلق على من فيه من الأهل والأقرباء الذين يتعرضون كل يوم لخطر الموت بسيارات مفخخة تملأ الشوارع وهم يمارسون أعمالهم اليومية التي لايستطيعون أن يبقوا على قيد الحياة من دونها. يوجد هناك قول شائع بأن من يعيش في الغربة قد إرتاح من هموم الوطن التي لاتنتهي وهو يعيش في بحبوحة من العيش بعيدا ً عن وطن ليست فيه من الخدمات والمقومات المعيشية التي يحتاجها أبسط إنسان يريد أن يعيش بكرامة وشرف. لكني سأقول لكم بأن هذا القول الشائع على قدر كبير من الخطأ فكل من التقيه من أبناء جلدتي يحمل هم الوطن بين حناياه ويتوق لرؤيته معافى من كل مرض وهم ويتمنى لأبنائه أن يعيشون فيه بأمن وأمان بعيدا ً عن الموت الذي يتجول في شوارعه فاردا ً جناحيه كالصقر كل يوم يختار فريسة جديدة ينقض عليها. بل الأكثر من ذلك أن هناك من حاول العودة لكنه أما لم يستطع الصمود بسبب عائلته أو لم يستطع الإندماج بالمجتمع الذي رسم آخر صورة له منذ عقود في خياله قبل الرحيل, أو أنه لم يستطع إيجاد عمل يكفيه ليعيش بأبسط الظروف.
أصبحنا نحن العراقيين كالمكسيكيين الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية بطرق غير شرعية من أجل العمل والعودة بمبلغ من المال يمكن أن يساعد في تحسين الوضع الاقتصادي والحالة المعيشية للعائلة إلا أن تلك الأحلام سرعان ماتتبخر بعدما تبدأ السنين بالمرور ويصبح حلم العودة أشبه بالمستحيل. يقول ويل كمليكا أستاذ الفلسفة السياسية الكندي أن هناك فرقا ً واضحا ً بين المكسيكيين والمهاجرين القادمين من بويرتوريكو إلى الولايات المتحدة في الاندماج في المجتمع الجديد. فبينما ينجح القادمون من بويرتوريكو بالاندماج بشكل كبير حتى الوصول إلى مناصب رفيعة ومنها مناصب سياسية يفشل المكسيكيون بذلك ويعزو السبب إلى أن المكسيكيين يهاجرون على أمل العودة بالرغم من أنهم لايعودون في أغلب الأحيان إلى وطنهم الأم لأسباب عديدة. هنا يتضح التمايز بين مصطلح الهجرة واللجوء إلى المنفي في عوالم جديدة حيث يبحث الإنسان عن كرامته وعزته ومستقبله في نفس اللحظة التي يتبخر فيها وطنه ويبقى مجرد ذكريات يستعيدها بسماع أغنية أو الحديث مع أحد الأصدقاء بنفس اللغة. نعم, يعيش العراقيون في المنفى كلاجئين وليسوا كمهاجرين فلايستطيعون الاندماج بنفس القدر الذي تندمج فيه باقي الثقافات والأعراق, ولكن وفي نفس الوقت, يتبخر حلم العودة أمامهم كمن يحترق بيت طفولته أمام عينيه ولايستطيع فعل شيئ فيكون كما يقول المثل العراقي ….ضيع المشيتين. لا أعرف إن كان أرسطو أم سقراط من قال …نحن الأغريقيون كالضفادع التي أنتشرت على سواحل البحر المتوسط تجدنا في كل مكان, ربما هكذا نحن تجدنا في كل مكان, كالطيور المهاجرة التي ليست لها أعشاش تأويها فهي تنتقل في كل الفصول.
ربما يسأل البعض عمن هو مسؤول عن ضياع مبلغ من المال أو حاجة ثمينة أوحتى بيت في نزاع عائلي على ملكيته, ولكن, من هو المسؤول عن ضياع وطن يتبخر بين أيدينا كالأمنيات التي لاتتحقق؟ أنا لا أتحدث هنا عن قطعة معدنية رماها أحدهم في بركة للسباحة بل عن وطن كبير, له تاريخ عريق وله أرض وسماء وفيه من البشر ملايين وفيه نخيل وأشجار ونهران وغابات وصحارى, فيه قبور أجدادنا وقصص الحب التي كانوا يعيشونها, ولو سألت أحد من غير تلك البلاد عنها ربما لايعرفها أو على الأقل لايتفاعل معها. سأقول لكم شيئا ً, سأستثني من هذا الوطن أولئك الذين لايعرفونه, ليس بالضرورة ممن لم يعيشوا فيه ولا لحظة واحدة بل أكثرهم ممن يعيش فيه ولايعرفه. نعم, لايعرفه فهو يعيش قصة حب طائفية عنيفة مع طائفين من الطرف الآخر ليتمموا عشقهم الجنوني وقصة حبهم الأزلية بزواج يرعاه متشددون بطقوس دينية غريبة, ولكن, سوف لايتم هذا الزواج إلى بزوال الوطن نفسه فهم لايستطيعون الزواج إلا على أنقاضه بعد أن تقاسموا تاريخه وحاضره ويحاولون تقسيم مستقبله. لقد دبر وساعد في هذا الزواج الكثير من المنتفعين منه من الأصحاب والجيران وذوي العلاقة من القوى الكبرى الذين يريدون أن يكون هذا الزواج زواجا ً رائعا ً ومفخرة وحدث يتمنى كل الجيران تكراره في بلدانهم لروعته. يريد الطائفيون بزواجهم هذا بناء أوطان جديدة بصبغة وشكل جديدين لم نعهدهما من قبل. نعم, سيتبخر هذا الوطن كحلم جميل عندما يرى صاحبه بصيص أول نور للشمس صباحا ً, سيتحطم إذا ما بقي من يمسك بزمام الأمور يعتقد أنه يدافع عنه بينما هو يدافع عن طائفته أو بالأحرى مصلحته, سيختفي من الوجود أذا تعنت وتمسك سياسيوه بكراسيهم وبخططهم الأمنية البائسة وبأجهزة متفجراتهم التي لاتعمل, سيذوب كفص من الملح في ماء الطائفية مالم يتحرك أبنائه وممن يخافون عليه لنجدته برفع أصواتهم عاليا ً والصراخ بصوت أعلى بأننا سائرون نحو الهاوية مالم تغيروا سياساتكم وتصححوا مساركم.
لقد حل الخريف في هذا البلد البعيد وبدأت الأوراق بألوانها المتنوعة تتساقط من أغصانها التي حملتها مدة طويلها, فمنها ورقة صفراء كزهرة الكانولا ومنها حمراء كلون الدم ومنها سوداء كأنها قطعة من الليل. كلما شاهدت تلك الأوراق تتساقط تذكرت مصائرنا نحن البشر وأحلامنا التي لم تعد وردية بل هي بلون تلك الأوراق المتساقطة والتي على أختلافها تدوسها أحذية المارة أو تطير مع أول ريح للشتاء. هكذا نحن, تطير أحلامنا بالوطن الواحد كأوراق الخريف, أو قل صرنا كأوراق الخريف نفسها بألواننا المختلفة نحلق في الهواء كلما حل موسم الخريف, موسم الهجرة إلى الشمال كما سماه الطيب صالح.
عماد رسن
https://www.facebook.com/imad.rasan