حين نتأمل الجذور الطائفية في العراق منذ تأسيس المملكة لا يمكن أن نغفل حقيقة مؤلمة أن الدولة العراقية وُلدت على أكتاف غرباء أكثر مما وُلدت من رحم أبنائها فقد جاء مع فيصل الأول الذي نُصّب ملكاً بعد طرده من سوريا على يد الفرنسيين نفر من رجال العروبة حملوا معهم مشروعهم القومي وكان العراق بالنسبة لهم مكبّاً لتجاربهم السياسية والفكرية من أبرزهم ساطع الحصري القادم من سوريا الذي سرعان ما فرض رؤيته الإقصائية على التعليم والثقافة فصاغ سياسة تبنّت العروبة المجردة على حساب التنوع العراقي حتى أنه لم يتردد في التحريض على إسقاط الجنسية عن شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي لم يملك سوى قلبه ولسانه سلاحاً في مواجهة التهميش والقمع السياسي والفكري .
كان الجواهري ابن هذه الأرض بينما من حرض عليه لم يكن عراقياً أصلاً وهنا يظهر التناقض المرير أن العراقي الأصيل يُحارب ويُنفى بينما يُفتح الباب على مصراعيه للطارئين باسم القومية .
ولم يقتصر الأمر على الغرباء بل إن بقايا فلول الدولة العثمانية الذين انتقلوا من حضن إسطنبول إلى حضن بريطانيا وجدوا في العراق الجديد فرصة لاستمرار سلطتهم فالمهم أن يكونوا في موقع القرار لا أن يخدموا الوطن أو المواطن هذه الحالة لها جذور تاريخية عميقة فشخصيات مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وغيرهما كانوا في الجيش العثماني ثم صاروا ركائز الحكم الملكي في العراق لم يحملوا مشروعاً وطنياً جامعاً بقدر ما حملوا هاجس السلطة والارتباط بالقوى الكبرى ولذا كان النظام الذي أقاموه بعيداً عن تمثيل الأغلبية ومعبّراً عن إرادة قلة تحكم باسم شعارات عريضة بينما تعيش الأكثرية على الهامش .
في ظل هذه البنية الناشئة وجد الشيعة أنفسهم على هامش الدولة الجديدة رغم كونهم الأغلبية السكانية فالمناصب العليا والقرار السياسي تركزت بيد نخب سنية ارتبطت إما بالعثمانيين سابقاً أو بالإنكليز لاحقاً أما من حاول من الشخصيات الوطنية أن يكسر هذا الإقصاء مثل جعفر أبو التمن فقد وُوجه بسياسة الاحتواء والتهميش أبو التمن الذي كان جسراً بين الحركات الوطنية والشيعية تحديداً مثّل خطراً على النظام الملكي لأنه كشف زيف الادعاءات بأن الدولة للجميع بينما كانت في حقيقتها تدور في فلك ضيق
هذا التأسيس الهش خلق شرخاً عميقاً بين أبناء البلد الواحد فالشيعة الذين قدموا الدماء في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني وجدوا أنفسهم خارج معادلة السلطة بينما صيغ تاريخ الدولة ليُظهر أن العروبة وحدها هي البوصلة أما الأصوات المعارضة كالجواهري فقد دُفعت نحو النفي والإقصاء تحت شعارات قومية جوفاء وهكذا تشكّلت منذ البداية بذور الطائفية السياسية لا كنتاج لصراع ديني بل كأداة سلطوية تستمد قوتها من الإقصاء وتغذية الانقسام .