كنا في المدرسة نقرأ أن من بين الأسباب التي أدت الى تدهور الزراعة في العراق، الهجرة من الريف الى المدينة، حتى تكونت لدينا فكرة بحجم أعمارنا بضرورة عودة المهاجرين الى موطنهم الأصلي حفاظاً على الثروة الزراعية التي كانت تشتهر به بلادنا قبل أن يغزوها المستورد وتصبح عالة على غلة العالم بعد أن كان يراهن عليها لتكون سلته الغذائية.
ولم ندر أو يدر في خلدنا، أن مفهوم الهجرة سيتسع ، ويتجاوز حدود الإنتقال من الريف الى المدينة، ليتحول الى ظاهرة أخطر من مشكلة زراعية، حين لايجد أصحاب العقول مكاناً لهم داخل الوطن فيفروا الى أرض الله الواسعة، بحثاً عن الأمن والرزق والتقدير أيضاً.
لعلك جربت، وسألت عن طبيبك الذي كانت ( القطعة) المعلقة على شرفات العمارة التي تقع فيها عيادته، مثقلة بالشهادات والزمالات الدولية، فيجيبوك : ( عاف العراق)، ورب متطفل يسألك ( تريد منّ شي)، وقد يقصد من سؤاله أن يدلك على مكانه الجديد، عيادته أو مستشفاه، في عمان أو دبي أو أنقرة، أو أبعد من ذلك.
لم نقصد في هذا المثل أن نقول أن هناك نقصاً في الإختصاصات الطبية، فربما يعوضون ببدائل، لكن نحن إزاء عملية منظمة لإفراغ البلاد من عقولها، ليس في الطب ، فحسب، وانما في جميع الإختصاصات العلمية والإنسانية، وحتى الأدب والفن، وكل المتعلقات الأخرى بحياة وطن.
المشكلة أن فكرة الهجرة تطورت بشكل مخيف، حتى أصبحت مدار حديث متواصل لدى الشباب، والمراحل العمرية الأخرى، بما فيهم ( الشياب)، وأخذ الكل يخطط ويرسم مستقبله، من خلال اللجوء عبر منافذ الأمم المتحدة، الى السويد أو الدانمارك أو أمريكا أو لندن، صعوداً أو نزولاً، المهم أن يكون بعيداً عن العراق، أو بالأحرى بعيداً عن الواقع العراقي الذي يتحمل أوزاره الساسة ورجال الحكم، ولسان حاله يردد ( سعيدين وعنكم بعيدين).
لاشك، سمعتم ، كما سمعت عن زحمة المطار بالمسافرين، وكيف إنتعشت الرشا في ظل التسابق على الحصول على مقعد في الطائرة في موعد قريب، وهي مؤشرات للنزوح أكثر منها إنتعاش للسياحة، بدليل أن أكثر الذين يسافرون يقطعون صلتهم بالعراق، بائعين كل شيء يشدهم اليه ، بيت، أو وظيفة، أو مصدر رزق، ليشتروا بدلاً منه بيت ووطن في المهجر.
قال لي أحدهم، وهو طالب كلية، : لم أعد أتحمل الطريق والسيطرات والتفجيرات والدولة بكل مؤسساتها، واتفقت مع والدي على الهجرة.
سألته : لكن مستقبلك، وأقصد كليته ؟.
فأجابني ببرود : ما قيمت الشهادة التي ممكن أن تهان من رجل أمن لايقرأ ولا يكتب، أو ماذا تعني أمام سلطة ميليشياوي، لايأبه بقتلي في أية لحظة، ويصبح بطلاً بدمي !!.
حاولت أن أتعكز بالأمل بالغد، لأغير قناعته، كي يكمل دراسته الجامعية، مستشهداً بالمثل الشعبي ” منا الباجر ميت عمامة تنكلب”، لكنه رد قائلاً : “عيشني اليوم وموتني باجر”، أنا أبحث الآن عن السلامة، و”بعدين خلي يجي المستقبل”.
ترى ماذا ينتظر هذا البلد، ومن سيبقى فيه عندما تغادره العقول ؟ .. أنظر حولك ستعرف من بقي، وتحت يد من أصبح حق التصرف، الشارع ومظاهر الجهل التي تسوده تنبئك بالحقيقة الموشحة بالسواد.