19 ديسمبر، 2024 12:41 ص

وصفة “فيصل الاول”

وصفة “فيصل الاول”

في احدى رسائلها تبدي المس بيل التي لعبت دورا هاما في تاريخ العراق خلال السنوات الاولى للاحتلال الانكليزي تعجبها من سلوك سياسي بحجم ياسين الهاشمي انذاك حيث تقول انه كان ياتي اليها فيمدح الانكليز بوصفهم وحدهم المنقذين للعراق . ثم اكتشفت له رسالة خاصة كان قد ارسلها الى احد اصدقائه يصف فيها الانكليز بانهم طغاة. ونقلت المس بين هذا التعجب الى الملك فيصل الاول فكان جوابه عبارة عن وصفة طبية تصلح لنا كعراقيين في كل الازمنة. يقول فيصل “ان هذا السلوك ليس عجبا بل هو مالوف لدى اكثر الناس, حتى انا  لانهم رزحوا تحت وطاة الفاتحين المستعبدين طيلة 600 سنة فاضطروا  الى اتخاذ خلق المكر لكي يعيشوا. ولو انهم عاشوا كالاوربيين في ظل الحرية زمنا كافيا لتعلموا مثلهم على اخلاق الاحرار”.
  اقتنعت المس بيل بصحة ما قال فيصل الاول الذي كان اول ملك غير عراقي على العراق مع اختلاف منطق الاشياء بعد اكثر من 80 عاما عندما عاد عراقيون من شتى المنافي ليحكموا البلد بجنسيات وولاءات واجندات مختلفة. بينما فيصل ترك حجازيته واصبح عراقيا حتى اعلن فشله في توحيد الاقوام العراقية على كلمة وطنية سواء. ميزة فيصل الاول هذه جعلته يختلف عن كل الحكام الوطنيين الذين جاؤوا بعده بشتى الوسائل بمن في ذلك الانقلابات العسكرية والذين فشلوا جميعا ف بناء مؤسسات دولة بتقاليد ديمقراطية. بعضهم حاول ونجح جزئيا مثل نوري السعيد وبعضهم لم تساعده الظروف المحلية والاقليمية مثل عبد الكريم قاسم بينما اوهم صدام حسين نفسه ببناء هوية عراقية سرعان ما ظهر زيفها عندما تهاوى تمثاله في ساحة الفردوس ظهيرة التاسع من نيسان عام 2003.      
  واذا كانت الحرية الشرط الاول للمواطنة فان ازدواجية السلوك عند الفرد العراقي طبقا لملاحظة مس بيل بحق الهاشمي وكذلك تناقضات شعراء من امثال جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي على صعيد الموقف من الجنرال مود فضلا عن سياسيين وصحفيين وقادة احزاب لايتسع المجال لذكرهم (من يريد المزيد عليه تصفح الجزء الرابع من لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث للدكتور علي الوردي). اقول ان ازدواجية السلوك تعني ان هناك شرطا ناقصا لاكتمالها. فعلى صعيد سلوك بعض الادباء انذاك تبدي مس بيل تعجبها. ففي احدى رسائها تقول   “انها حائرة من وضع بعض الادباء الذين هم من اعز اصدقائها الان , فهم كانوا في عهد الاتراك يكتبون المقالات العنيفة ضد الانكليز. وهم الان يكتبون المقالات العنيفة ضد الاتراك, وهي لاتجد تفسيرا مقنعا لذلك”.
بعد الاحتلال الاميركي لم يتغير كثيرا هذا السلوك. فهناك المتحولون من الداخل وهم كثر . وهناك من خرج من البلاد معززا مكرما في العهد السابق ويستقيل او يترك وظيفته ليعود بعد سنوات مفصولا سياسيا بعد ان وضع في الجيب جنسية اجنبية ضمن فيها مستقبل عائلته. وعلى صعيد كبار السياسيين فقد تكفل اول حاكم مدني اميركي للعراق (بول بريمر) بوضع كل واحد منهم “طينته بخده” في كتابه “عام قضيته في العراق”. صحيح ان الامور لم تصل الى حد الدعوة لاقامة تمثال لبريمر على غرار تمثال مود في قلب بغداد.