23 ديسمبر، 2024 10:38 ص

وزراء تكنوقراط عراقيون … كريم وحيد نموذجا

وزراء تكنوقراط عراقيون … كريم وحيد نموذجا

على مدى خمس حلقات تلفزيونية، حل فيها الدكتور كريم وحيد حسن ضيفا في برنامج شهادات خاصة الذي يقدمه الدكتور حميد عبد الله، وقد سبق ذلك بسنوات نشره لسلسة مقالات في موقع كتابات موقعة بإسمه، وبيّن الدكتور المهندس كريم وحيد خلالها بإسهاب ووضوح كل التفاصيل التي لازمت ازمة الكهرباء منذ ما يقرب من أربعة عقود والأسباب والمعوقات التي جعلتها شبه مستعصية. 

سنحاول في مقالنا هذا الحديث عن سيرة الدكتور كريم وحيد كأحد أبرز رجال التكنوقراط في العراق الحديث، وعن حقيقة أزمة الطاقة في العراق وملفها الشائك.

 يشكل ملف الكهرباء اهمية بالغة ترتبط به جميع الملفات المتعلقة بالخدمات وبكل ما له علاقة بمتطلبات الحياة العصرية للإنسان، ناهيكم عن حجم أهميتها لكل القطاعات الانتاجية الاخرى كالصناعة والزراعة وغيرها، ولأن المصادفات جعلتني متابعا لهذا الملف منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد وجدت نفسي بعد العام 2003 قريبا من وزراء الكهرباء، وخصوصا الدكتور كريم وحيد حسن الذي وجدت لديه كل الأجوبة الصريحة والواضحة على كل الأسئلة المتراكمة التي تخص هذا القطاع، خصوصا بعد ان علمت أنه في مقدمة من كلف بتبني ملف الكهرباء وإعادته للحياة عقب العدوان العالمي عام 1991 الذي دمر أغلب البنى التحتية وفي مقدمتها محطات توليد الطاقة الكهربائية.

لذلك لم يكن مفاجئا لنا بعد العام 2003 أن يتم إختيار الدكتور كريم وحيد لاستلام هذا الملف سعيا وراء إصلاح ما أفسده الدهر، فهو أحد أمهر الخبراء العراقيين في صناعة الكهرباء، ولكننا أسفنا كثيرا بعد ذلك عندما إكتشفنا حال هذا الرجل التكنوقراط الذي وضعته الاقدار بعد العام 2003 وسط مناخ السياسي شائك ووسط لعبة الكراسي والمناكفات السياسية التي أصبحت عنوانا للقادة الجدد الذين بأغلبيتهم كانوا ومازالوا يلهثون وراء مصالحهم الضيقة دون ان يضعوا اي اعتبار لمصلحة العراق وشعبه المنكوب منذ عقود طويلة، وسنحاول هنا قدر تعلق الامر بالمعلومات التي لديّنا أن نعطي لهذ الرجل حقه من الانصاف بكل أمانة.

لا تزال أزمة الكهرباء واحدة من أشد الازمات التي تقض مضاجع العراقيين وتنغص عليهم حياتهم وتتسبب في الكثير من مشكلاتهم اليومية المستديمة، وقد وصلت هذه الازمة الى ذروتها في نيسان من العام 2003، خصوصا بعد ان دمرت الآلة الحربية معظم منشآت إنتاج الطاقة، وما تبعها من أعمال النهب والسرقات لعدد غير قليل من محطات الكهرباء وخطوط نقل الطاقة وأبراجها.

كانت أولى العثرات التي وضعت أمام حل أزمة الكهرباء بعد العام 2003، هو ما أعقب تشكيل مجلس الحكم المحلي (أحد مفرزات الاحتلال) الذي شكل أول وزارة عراقية في النظام الجديد، إعتمدت على ما عرف لاحقا بـ (المحاصصة الطائفية)، لتصبح وزارة الكهرباء من حصة مكون مذهبي مخالف لمذهب الدكتور كريم وحيد!، فتم الإعتذار منه وإستيزار أحد المقاولين الحاملين للجنسية الأميركية المدعو (أيهم السامرائي)، ولم تمض أسابيع حتى فاحت رائحة الفساد في كل مفاصل الوزارة، وتصاعدت الأصوات الإحتجاجية ضده، ليلقى القبض على الوزير المذكور ويحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات (تم تهريبه من قبل القوات الاميركية بعد مرور شهرين كونه يحمل الجنسية الأميركية).

وعندما بدأ الحراك لتشكيل الوزارة الثانية وجهوا الدعوة مجددا للدكتور كريم وحيد لإستيزاره، لكن حسين الشهرستاني (صاحب النفوذ الحوزوي) وقف ضد هذا الترشيح، لا لمصلحة وطنية عامة بل لرغبته في إستيزار صديقه (كندي الجنسية) المهندس (محسن شلاش) ودارت الدائرة من جديد وظلت الأزمة تراوح في مكانها، ولم يفلح الوزير الجديد (لعدم خبرته) في تقديم أي علاج لحل أزمة الكهرباء، غير تحويل ليالي داره في المنطقة الخضراء الى ليالي حمراء حضرت بعضها.

وعند تشكيل الوزارة الثالثة بداية عام 2006 لم يجدوا بدا من إستيزار الدكتور كريم وحيد، ليكون أول وآخر وزير تكنوقراط مختص بالطاقة بعد العام 2003.

فما الذي حصل؟ 

للدكتور كريم وحيد تاريخ طويل مع ملف الكهرباء في العراق، وكان قد إشتهر أسمه بشكل خاص بعد نجاحه ومعه فريق من الخبراء في إعادة منظومة الكهرباء العراقية الى العمل بعد انتهاء حرب الخليج الثانية (احتلال الكويت) في العام 1991، لينجحوا بوقت قياسي وبما توفر لديهم من البدائل القليلة والمواد الإحتياطية، بإعادة تأهيل أغلب المحطات الكهربائية، وهو ما دفع الحكومة العراقية آنذاك الى إقامة إحتفال للإشادة بطاقم العمل العراقي الذي حقق ذلك الإنجاز متحدين ظروف الحصار الكامل الذي ضرب حول العراق، وعلمنا بعدها أن رئيس النظام السابق صدام حسين فاجأ المحتفلين بقوله – وهو يحيي الدكتور كريم – (حيّوا معي فارس الكهرباء)، ولم يتوقع الرجل أن هذا اللقب سيسبب له في المستقبل العديد من المشاكل، بل وصار من السهولة عند الآخرين أن يطلقوا عليه أوصاف ليس أقلها أنه (من أرباب النظام السابق)، علما أن الرجل هو أحد أثنين استثناهما ذلك النظام من شرط الانتماء للحزب عند تسنمه منصب مدير عام الدائرة الفنية في هيئة الكهرباء، ولا دخل له بالسياسة وتنظيماتها على الاطلاق.

 وجد الوزير كريم وحيد نفسه محاصرا بمجموعة من الافراد فرضتها عليه المحاصصة السياسية ولعبة كراسي الأحزاب، ولأن الدكتور كريم وحيد (من أرباب النظام السابق بحسب رأي الساسة الجدد) فأنه ظل يتحمل إشتراطات هذا الواقع أملا في خدمة وطنه وتحقيق إنجاز آخر يضمه الى إنجازاته السابقة، فواجه ضغوطا ليست قليلة، منها على سبيل المثال، قبول آلاف طلبات التعيين المتتابعة (التي يبعثها النواب والمتنفذون) لجيش ومعظمهم غير مؤهلين وغير منتجين والذين أصبحوا عبئا ثقيلا على الوزارة، حتى غرقت الوزارة بأرقام مضاعفة من المنتسبين يثقلون ميزانية الوزارة بلا أي عمل مقابل الرواتب التي يتقاضونها، بل تحول بعضهم الى أحدى أدوات الفساد والإفساد فعلى سبيل الإيضاح، أخترعت كل جهة سياسية نقابة خاصة بها وعلى الوزارة أن تتكفل بتوفير مكتب لكل نقابة مع سيارة أو أكثر إضافة الى قطعة سلاح لكل نقابي (…!!!…) مع هاتف فاتورة مجاني دون أن يكون لديهم أي عمل له علاقة بصناعة الكهرباء.

ورب سائل يسأل (ما الذي يجبر هذا الوزير على تحمل كل ذلك؟ أما كان من الأجدر به أن يعتذر عن هذا المنصب)، ….. لكن الذي يعرف كريم وحيد سيجد أكثر من جواب على هذا التساؤل، كانت وطنيته بحق هي الغالبة على جل سلوكه مثلما الصورة التي كان عليها أيام النظام السابق، كان يريد أن يمضي بلقبه (فارس الكهرباء) الى النهاية، كان يريد أن يحقق إنجازا لوطنه يفخر به ويحفظ في سجله

 

الشخصي، معتبرا أن كل تلك العراقيل والصعوبات لن تكون مانعا أمام إصرار، بل وجدناه لم يتراجع حتى بعد تعرضه الى عدة محاولات إغتيال له ولأفراد عائلته، والتي انتهت بتعويق اجساد إثنين من أبنائه عندما استهدفوا في جامعاتهم، ما دفعه في النهاية الى إخراج أبنائه من العراق وتوزيعهم طلابا للعلم في جامعات الدول المجاورة، فيما سكنت زوجته في العاصمة الاردنية ليبقي هو وحيدا في بغداد.

أصبحت منشآت ومحطات وزارة الكهرباء وشخص الوزير والخبراء والفنيين هدفا مهما للعصابات الإرهابية، وعلى مدى سنتين من العام 2006 وحتى العام 2008 كان منتسبو الكهرباء يعملون وسط ميدان (حربي)، فأغتيل ما يزيد على ألف خبير ومهندس وفني وعامل وعنصر حماية، ووسط هذا المناخ الأمني المتدهور، يصعب إقناع أية شركة من الشركات الأجنبية العمل داخل العراق مهما كانت الاغراءات المالية مجزية، لذلك لم تبدأ الوزارة عملها الفعلي إلا في حزيران من العام 2008.

نقل لي احد الاصدقاء أنه واجه الوزير كريم وحيد بالقول (وسوى الروم خلف ظهرك روم ، فعلى أي الجانبين تميل) مستشهدا بقصيدة المتنبي الشهيرة … فقد كان دائما بمواجهة فلول الإرهاب، ولكن (خلف ظهره) صراع الكتل السياسية ونياتهم المبيتة لإفشال بعضهم البعض ولو على حساب ضياع مصالح الشعب والوطن الخائب، ومنها على سبيل المثال، تفويت الفرصة على تحقيق أي منجز يسجل لهذه الحكومة أو تلك، في وقت ليس لوزير الكهرباء كريم وحيد أية ناقة أو جمل في هذه الصراعات الشخصية والسياسية، لذلك كان أهم معوقين واجها الوزير هما معضلتا التخصيصات المالية، وتوفير الوقود اللازم لتشغيل المحطات الكهربائية.

وفي المقالات التي نشرها الدكتور كريم وحيد في موقع (كتابات) عام 2013 وفي السلسلة التلفزيونية كما أسلفنا، الكثير من الإجابات التي توفر علينا جهد الحديث عنها وعن ظروف عمل الوزير والوزارة والانجازات التي قامت بها والتعجيزات والصعوبات التي واجهتها والتي أخرت بالتالي إنجاز المشاريع الإستراتيجية التي عرضها الوزير على مجلس الوزراء وأمام البرلمان العراقي وعلى مدى سنتين كاملتين.

وبالتأكيد فان المحصلة النهائية لكل تلك الصراعات السياسية هو المزيد من الأذى والضرر والعسف الذي لحق بالمواطن العراقي وزاد من معاناته.

 وعندما عجزوا عن لجم اصراره وبعد ان استنفذوا كل وسائلهم، عمدوا الى افتعال مظاهرات زج بها بعض البسطاء من ابناء شعبنا المحروم ما دفع الدكتور كريم وحيد الى تقديم إستقالته!، وما يؤكد ذلك ان تلك الاحتجاجات توقفت فور استقالته لكأن مطالبهم التي خرجوا من أجلها تحققت!، ولم يكتف بعضهم بذلك بل ذهب الى حد ملاحقته بعد شهور من غيابه عن العراق بعدد من الاشاعات والتلفيقات للطعن في نظافة يده ونزاهته.

واحدة من سخريات القدر ومفارقاته، أن المسؤولين الذي جاءوا بعده وجدناهم يتسارعون لقطف ثمار ما أسسه وما بناه الدكتور كريم وحيد وفي سباق (قص أشرطة افتتاح المحطات)، والتحدث لوسائل الاعلام عن منجزات لا دخل لهم فيها.

هذه كلمة إنصاف بحق هذا الرجل التكنوقراط الذي وضع في العام 2006 الاسس السليمة لبناء مؤسسة حديثة ومتطورة للكهرباء العراقية اعتمدت فيها التكنولوجيا المتقدمة في المشاريع الجديدة المجهزة من الشركات العالمية المتخصصة بصناعة الكهرباء، لا تلك المتلكئة أو الموضوعة على اللائحة السوداء أو المُرتشية التي حاولت بعض الاطراف النافذة فرضها عليه ورفض.

مع التذكير دائما أن الفترة الحقيقية لعمل هذا الوزير لم تتجاوز الأشهر كما أوضحناه سلفا، وكان عمله اليومي فيها لا يقل عن ثمانية عشر ساعة متواصلة ومعظم منتسبو الوزارة يعرفون ذلك جيدا، وهذا ما جعله يعاني من متاعب صحية مزمنة ازدادت بمرور الوقت، ونقل لي مؤخرا أنه أصبح زبون دائم لأخصائي القلب والشرايين، نتمنى له ولكل الوطنيين الشرفاء السلامة والشفاء ثم الفخر والشموخ.