تعد دراسة واستقصاء مخاطر حملات الحرب النفسية وادواتها الحديثة من أولى مهام الجهات الحكومية ومراكز بحوث الحرب النفسية ، المهتمة بمواجهة تلك الحملات، والتعرف على توجهاتها وأساليبها، ومن ثم ابتكار الصيغ الأمثل لمواجهة تداعياتها وتاثيراتها الخطيرة على الأمن المجتمعي ، وتهديدها للسلم الأهلي.
وقد تابعت منذ فترة ، ليست بالقليلة توجهات أحد القائمين على رصد مخاطر الشائعات ، التي تعد إحدى وسائل الحرب النفسية،وهو العقيد زياد القيسي ، الذي يتولى مهام مدير قسم مكافحة الشائعات بوزارة الداخلية، والرجل ينطلق في توجهاته هذه من حرص أكيد على تسليط الضوء على مخاطر الاشاعات وانتشار مظاهر الجريمة الإلكترونية والسلوك التحريضي، وما ينجم عن ذلك من تهديد للسلم المجتمعي واثارة الأحقاد والضغائن وعمليات استهداف الاخرين ، ضمن حملات صخب تمتليء بها تلك الوسائل الاتصالية الحديثة!!
وأود هنا توضيح جملة نقاط ينبغي على القائمين على مواجهة حملات الحرب النفسية الانتباه الى مخاطرها وتوجهاتها، كون عمليات الحرب النفسية متصلة تقريبا ، وان تشعبت جذورها، لكنها تستهدف في المقام الأول، تشتيت الوعي المجتمعي واثارة حالات من التحريض والاحقاد ضد الآخر، لمجرد الاختلاف الطائفي أو الفكري او الايدلوجي، مع الآخر، أيا كان ودرجة الاختلاف في الرؤية والتوجه والمنطلقات..!!
ومن وجهة نظري فقد أرى أن التركيز على وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وما يكتبه المدونون في المواقع الإخبارية والالكترونية ليس بتلك الخطورة التي تبثها البرامج السياسية والدينية لبعض القنوات الفضائية وبخاصة ذات التوجهات الحزبية ومن كلا الأطراف السياسية، فهي الأكثر تحريضا على اثارة الاحقاذ والضغائن واثارة الغرائز العدوانية ، وشيوع مظاهر الاختلاف والتناحر، وهي اذا ما قيست تاثيراتها على نطاق الاشاعة في وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات تكاد تكون لاتذكر من حيث التاثير، قياسا بما تمتلكه البرامج السياسية وحتى الدينية وذات التوجهات الطائفية والمذهبية الصاخبة في حملات الاثارة التي تتعدد أشكالها وتوجهاتها، وهي ، أي الفضائيات، تعد حالات التضارب في الرؤى والتوجهات والاهداف منطلقا لنجاحها، كونها تعتمد أساسا في كسب جمهورها وتحاول السيطرة على مساحات واسعة من خارطة انتشارها ، على الاثارة الصاخبة التي تشعل الرأي العام وتؤجج الاختلاف وحالات التناحر ، لتصل بالمتلقي الى حد ان يكون طرفا مشاركا في استهداف الآخر ، وفي استباحة حتى دمه وفكره لمجرد الاختلاف معه، وهو ما يشكل خطورة فائقة، لايمكن مقارنتها بوسائل التواصل الاجتماعي التي خف بريقها وهذه الأيام، بعد ان حدثت حالة أقرب الى ” إلإشباع” من كثرة توجهاتها ومل حتى الرأي العام الشعبي من سماع اسطواناتها المشروخة، وهناك توجه شعبي مضاد لكل أنماط تحث على الكراهية واثارة الأحقاد، وتعد في نظر قطاعات جماهيرية كثيرة هذه الأيام، انها من مخلفات توجهات داعشية من كل الأطراف التي تلتقي مع داعش وتوجهاتها او تناظرها في الرؤية او تختلف عنها في المنطلقات وان كانت تلتقي معها في كثير من توجهات حملاتها في الحرب النفسية!!
وللمرة الثانية ألمس من السيد زياد القيسي وهو رجل يهتم بشؤون الاشاعة ومخاطرها تحريضا ضد كتاب ومدونين، لا أرى بين كتاباتهم مادة تحريضية توازي حجم مايصدر من برامج الفضائيات السياسية والدينية ، بل قد يكونون وسيلة لتنوير الرأي العام، كون غلبهم من طبقات مثقفة وواعية وان كانت هناك ” أقلية ” بينهم من ينتهج هكذا توجهات لاثارة الكراهية، ولهذا تبقى توجهات البرامج السياسية والدينية في الفضائيات وبعض المواقع الإخبارية هي الأخطر من الشائعات التي تكاد فترات توهجها قليلة، لكون تأثير الاشاعة يمتد الى ساعات او أقل وينتهي مفعولها، اما توجهات البرامج السياسية والدينية المؤججة للاحقاذ والاختلاف مع الاخر وحتى ممارسة التهديد والوعيد بين مضامينها هو مايفوق حتى اخطر الاشاعات تأثيرا، ولا تكاد وسائل التواصل الاجتماعي او كتابات المدونين يمكن ان تشكل نسبة 10 % في أكثر تقدير!!
والمشكلة التي وجدتها مناسبة للحديث عنها انها تهديدات توجه للمدونين ولمن يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تهديدات كما أشرت ، ليس لها مايبررها ، كونها لاتقارن بتأثيراتها ومخاطرها على توجهات حملات التحريض في برامج الفضائيات وبعض المواقع الإخبارية، لكن الخطر الأكبر هو من الفضائيات، وهي من تمتلك القدرة على ارغام الرأي العام القطاعي ، كل حسب توجهاته، لكي ينصاع وفقا لرغباته الدفينة او ما يؤمن به من عقائد ثورية ، أو مؤدلجة ، وهي تشكل ما نسبته 80 % من حجم المخاطر التي يتعرض لها الرأي العام العراقي ، وهو ما ينبغي الاهتمام اليه عند رصد توجهات الحرب النفسية ، والاستدلال على أي الوسائل الإعلامية من حيث حجم التأثير!!
وهنا لابد من تأكيد حقيقة، وان كانت مرة، أن الامر يتعلق أساسا بطبيعة النظام السياسي العراقي والصراعات التي تحتدم بين أقطابه وجماعاته السياسية والدينية، وهو معبأ على الدوام على نظريات التحريض والاختلاف مع الآخر ، وحتى استخدام ما يلزم من أدوات الاستهداف ، ضد كل من نختلف معه في الرؤية والتوجهات، وان الفضائيات ووسائل الاعلام تعكس طبيعة النظام السياسي وتمثل رؤية أقطابه وجماعاته ومن يهيمن على سلطة القرار ، وكيف يرى الاخر نفسه وهو خارج دائرة المشاركة وسلطة القرار وفي حق الوظائف والعيش!!
والخلاصة التي نخرج بها بعد كل تلك السنوات من حملات الحرب النفسية التي استهدفت المجتمع العراقي أن ملايين العراقيين يشعرون أنهم صدموا بنظام سياسي جلب لهم الكوارث والنكبات وأحال دولتهم الى معالم للفوضى والاحتراب ، وهو ما يشكل ادانة لمبررات وجوده، وهو ما لاينبغي لوسائل الاعلام والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي وحدها ان تتحمل تبعات وأوزار مخاطر التخريب الفكري والاجتماعي والنفسي والاقتصادي والقيمي الذي يتعرض له شعب بأكمله، لاطائفة ولا مذهب او قومية، فهم أصبحوا كلهم في الهوى سوى، بل نظام سياسي يحمل بذور الفناء من داخله، ولايريد ان يتغير وفقا لمتطلبات الحق والعدالة الاجتماعية ، ولا يريد ان ينصاع لقانون او دستور او نظام، أو يسمح للاحر بحق المشاركة والعيش معه، ويركز على الاغلبيات والأقليات ، وفقا لرؤيته في ممارسة الدكتاتورية على الاخر واستباحة كرامته ووجوده ودوره الوطني، إن اختلف معه، فهو يحمل بذور فنائه من داخله، بكل تأكيد!!