18 ديسمبر، 2024 7:36 م

ورقة الكاظمي البيضاء تبدو سوداء قليلاً

ورقة الكاظمي البيضاء تبدو سوداء قليلاً

سُميت بالورقة البيضاء لكونها وثيقة تُقدم معلومات عن أفكار معينة لمحاولة إقناع المقابل لدعم تلك المشاريع والحلول التي يتبناها ويطرحها المقدم. فهي ليست ذات نفوذية، بل مجرد إقتراح لمنهج ما، حتى يقر المقابل على تطبيقها أو الإستثمار فيها.

حكومة الكاظمي ،التي لم تنقضي خمسة أشهر على تشكيلها، قدمتْ يوم الثلاثاء من شهر أكتوبر ورقة بيضاء تحمل في طياتها خطط إصلاحية اقتصادية إلى مجلس النواب لإقرارها. هذه الإصلاحات تبدوا وكأنها تركز على أهداف طويلة المدى بدلاً من أن تحل مشاكل الاقتصاد العراقي قصيرة المدى كمعالجة العجز في الموازنة الحالية المتسبب من قبل جائحة كورونا. تتوقع الحكومة نفسها إنجاز جميع المشاريع المقترحة في خمس سنوات على الأقل، مما دفع البعض أن يتهموا الكاظمي بتخليق دعاية إنتخابية له من أجل جذب الإنتباه لنفسه في الإنتخابات القادمة.

لكنها حتى لو كانت دعاية إنتخابية، فهي دعاية جيدة إن أُلتزم بها لمضي اقتصاد الدولة إلى الأمام عن طريق تنويع السلع والخدمات المنتجة والابتعاد قليلاً عن الإعتماد على النفط في الموازنة. الحلول المطروحة في الورقة تغطي جميع مجالات الاقتصاد، من تطوير البنى التحتية إلى الاقتصاد الإلكتروني إلى التأمين والضمان الصحي، وتضع الحكومة إلى مسار الإستفادة من إيرادات الضرائب لتوفير خدماتها بصورة أفضل وأوسع.

بالرغم من ذلك، تحتوي الورقة على بعض من التناقضات والأخطاء التي يجب أن تُلفت النظر إليها قبل أن تلتقطها الرياح وتتسبب بأضرار حقيقية على اقتصاد البلد.

 

تناقض بين زيادة الضرائب ودعم القطاع الخاص

 

جاء في المحور الأول من الورقة خطة للزيادة من الضرائب بكافة أنواعها لكي تتحول الحكومة من إنتظار إيرادات النفط إلى جمع الضرائب ووضع موازنات على أساسها، كما تفعلها جميع الدول الغربية المتقدمة. تشمل الورقة ضرائب جمركية وزيادة من الفواتير على خدمات العامة من الكهرباء والماء.

تتناقض أهداف هذا المحور مع المحور الثاني الذي يُراد فيه دعم القطاع الخاص وتوفير فرص العمل من خلالها بدلاً من التعيين المركزي. لن يستطيع أحد على فتح شركات ومعامل سلعية ناجحة إذا أزدادت الضرائب عليها، لأن المواد الخامة المستوردة سوف تزداد سعرها وتصبح عبئاً على أرباح المعامل، والتي بدورها سوف تضع ذلك العبء على المشترين بزيادة أسعار السلع المنتجة. ومع زيادة من فواتير الكهرباء والماء، تصبح إدارة الشركات الناجحة أمراً غير ممكناً، وسوف تفشل حتماً وتعلن إفلاسها في غضون أشهر من تأسيسها.

هناك أنخفاض كبير في الطلب بشكل عام على جميع أنواع السلع والخدمات في العراق، هذه المشكلة سوف تكون من الصعب اجتيازها إذا لم تكن السلع في البداية رخيصة. من الصعب جداً توفير سلعة أو خدمة (مهما كانت جودتها جيدة) بسعر باهظ على المواطنين. فمن الأفضل للحكومة أن تقلص من الضرائب بقدر الإمكان عن الشركات الصغيرة والحديثة وترفع حاجز الجمارك عن موادها الخامة حتى تنمو وترسخ قدمها في السوق العراقي، عندها فقط يمكن تقديم الضرائب تدريجياً عليها.

” نعم هناك تناقض واضح بين زيادة الضرائب ودعم القطاع الخاص” يقول دكتور نبيل المرسومي، أستاذ اقتصادي في جامعة البصرة. لا يمكن للحكومة أن تدعم القطاع الخاص وتزيد من إيراداتها الضرائبية في نفس الوقت.

تحاول حكومة الكاظمي أيضاً تقليل من ما يسمى بالطلب الإجمالي عن طريق تخفيض 25% من رواتب موظفي الحكومة والتي ستؤدي حتماً إلى سحب القوى الشرائية من السوق وبالتالي تضر المعامل والشركات المنتجة (سواءً كانت تنتج سلع أم خدمات). بإختصار، لن يستطيع الزبائن شراء سلع معينة ومتنوعة إن لم يكن هناك المال الكافي في جيوبهم، أي إن المعامل والشركات سوف تخسر سوقها وتنكمش. وها هنا نرى تناقض آخر بين دعم القطاع الخاص وفرض الضرائب على الدُخل.

 

من المستحيل محاربة الإنكماش الاقتصادي بزيادة الضرائب وتخفيض الطلب الإجمالي

 

يمر اقتصاد العراق بفترة أليمة بسبب جائحة كورونا التي خفضت من سعر النفط الثمين والتي هي 94% من صادرات الدولة. بل يمرالعالم بأكمله بأزمة اقتصادية فضلاً عن الازمة الصحية، هناك انكماش اقتصادي جلي في الاقتصاد العالمي. محاربة الانكماش عن طريق زيادة الضرائب والتقليل من الطلب الإجمالي التي تريد حكومة الكاظمي تبنيها هي خطوة خاطئة تماماً، وهي العكس ما تقوله كُتب الاقتصاد. ما نعرفه في علم الاقتصاد هو: على الدولة أن تخفض من ضرائبها ويجب أن تحاول رفع الطلب الإجمالي بأي عملية ممكنة حتى تتخلص من انكماشها الاقتصادي.

من الضروري للحكومة أن تنفق ما في خزينتها حتى لا تنهار الاقتصاد، وتشمل ذلك التوظيف الحكومي والإستهلاك الحكومي وبناء المدارس والمستشفيات والمكتبات الحكومية، وحتى بناء التماثيل سوف تفي بالغرض. بما أن الطلب والاستهلاك منخفض للغاية في الاقتصاد المنكمش، تشير معادلة الطلب الكلي في علم الاقتصاد إلى زيادة من الإنفاق الحكومي وليس التقليص والركود.

زيادة من الضرائب الجمركية على الواردات سوف ترفع من سعر السلع الايرانية والتركية والصينية المستوردة من الأغذية والملابس والالكترونيات مما يزيد من الانكماش الاقتصادي وتشجع المواطن على الادخار الخاص بدلاً من الشراء والاستهلاك.

يلجأ حكومات الدول العظمى عند انكماش اقتصادها إلى ما يسمى بالسياسة التوسعية من أجل تحفيز الاقتصاد للنمو، تقوم فيها الحكومة بزيادة الإستهلاك على حسابها الخاص وحتى لو كانت عن طريق الديون، وزيادة الإقراض للشركات والمواطنين، ومن ثم قطع الضرائب عنهم. يمكن أن تتحقق تلك الأهداف أما عن طريق السياسة المالية أو السياسة النقدية أو كليهما معاً، وهو ما يحتاجه العراق بالضبط في هذه اللحظة، والعكس ما تم طرحه من قبل حكومة الكاظمي في الورقة البيضاء.

 

المُغازلة مع تخفيض قيمة العملة

 

لم تُصرح الورقة أي قرار عن تخفيض قيمة عملة الدينار العراقي مقابل الدولار الامريكي، لكنها مرت عليه مرور الكرام لتنقل لنا محاسنه ومساوئه ربما من أجل الإستعداد لتنفيذه في المستقبل. فمن شأن تخفيض العملة كما تقول الورقة أن يجعل الحكومة قادرة على دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، ويقلل من الديون الداخلية والخارجية للدولة التي تراكمت مع السنين وما زالت تتراكم، وكذلك في نفس الوقت يرفع الاقتصاد العراقي إلى مستوى مطلوب لمنافسة السلع الأجنبية في السوق.

إلى أي مدى يمكننا تخفيض قيمة العملة؟ هذا هو السؤال المفروض دراسته. تريد حكومة مصطفى الكاظمي أن تسترجع “تنافسية الاقتصاد العراقي” إلى سابقتها، إلا إنها لا تعلم الدرجة المطلوبة التي يجب أن تنخفض إليها قيمة الدينار العراقي لتحقيق ذلك. عملات الدول التي تستورد منها العراق قيمتها دنيئة مقارنة بالدولار الأمريكي، وبعضهم حتى عندما تقارنها بالدينار العراقي؛ مائة تومان إيراني على سبيل المثال تعادل دينارين عراقيين فقط. فكيف يمكن للمعامل العراقية منافسة سلع الإيرانية الرخيصة في السوق؟ يبدو أن الحل الوحيد هو فرض ضرائب على المستوردات الإيرانية لرفع من قيمتها حتى تتساوى مع سعر السلعة العراقية، ولكن حتى هذا في مثل هكذا ظروف اقتصادية سوف يضر بالسوق أكثر مما ينفعه، وبالتأكيد سوف ينكمش الاقتصاد أكثر بعد غلاء سعر السلع الايرانية الطاغية في السوق مثل المواد الغذائية.

تخفيض قيمة العملة سيؤثر أيضاً على الإستثمار بنوعيها الداخلي والخارجي: فالمستثمرين العراقيين لن يكونوا مستعدين لتلقي أرباح الإستثمار بالدينار العراقي الرخيص، وبالتأكيد سوف يتجهون للاستثمار في الدول الأخرى الأكثر استقراراً وذات عملة ثمينة، وهُم ما يفعلونه الآن بالإستثمار في مشاريع الولايات المتحدة والأردن والسعودية بدلاً من بناء وتطوير المشاريع في العراق. وكذلك لن يكون هناك دافع للمستثمرين الاجانب أن يستثمروا في العراق بسبب العملة الرخيصة. مما يخلق تناقض آخر في الورقة بين هدفها في جذب المستثمرين ومساعدة القطاع الخاص في الحفاظ على سلعهم.

 

الفكرة العامة من الورقة

 

الورقة بأكملها عبارة عن عملية لإستئصال يد الحكومة من الناتج المحلي الإجمالي وتوسعة القطاع الخاص بدلها، لا أكثر ولا أقل. فهي عملية تحويل النظام الاقتصاد العراقي الذي كان اشتراكياً في السابق وما زال يعاني من نوع من الاشتراكية حتى اليوم إلى نظام رأسمالي منضبط وخصخصة غربية. لو تجاوزنا بعض تلك التناقضات والمغالطات، فهي بالفعل تمتلك بعض القدرات التطويرية للاقتصاد العراقي، أهداف مثل تحصيل ايرادات فعلية من فواتير الكهرباء والماء والخدمات العامة، وبرنامج جديد لإطلاق أصول حكومية جديدة، وإنعاش الإستثمار العام، سوف تجعل الحكومة أكثر متانة ومرونة لتقلبات في أسعار النفط،، وسوف تجعلها ذات ميزانية ضخمة، وتطمئن الحكومة عندها على إنجاز مشاريعها الخدمية حتى بغياب إيرادات النفط.