23 ديسمبر، 2024 1:41 م

ورقة ‘الإرهاب’ المحترقة في سوريا والعراق

ورقة ‘الإرهاب’ المحترقة في سوريا والعراق

لعبة تنظيم القاعدة ورقة سياسية يخشى الكثيرون الدخول في تفصيلاتها المعقدة، مع أنها سؤال طرح نفسه في ميدان الأزمة السياسية والأمنية في كل من العراق وسوريا. فإذا كانت لدى تلك التنظيمات أهداف خاصة لمشروع متطرف اتخذ الإسلام غطاء له، فإن نشاط هذه التنظيمات الذي لابد وأن يكون له رأس مدبر، وإذا كان الظواهري مرجعه الفكري المعلن، فليس بالضرورة أن يكون هو وراء مخططاته وعلاقاته الواسعة، ومن بينها الجهات الأميركية التي تمتد إلى زمن العمل المشترك ضد احتلال السوفييت لأفغانستان ما بين عامي 1979 و1989.
هذه التنظيمات انتشرت وتوالدت عناوينها وفقاً للحالة السياسية في كل بلد. وما دام الوضع العربي هو الحاضنة الحقيقية للإسلام فقد انتشرت خارطة الإسلام السياسي تزامناً مع النهضة الشعبية العربية في الشرق الأوسط وتعددت مسمياتها خصوصاً بين أبناء الطائفة السنية، لأن الطائفة الشيعية كأقلية في العالم العربي اشتغلت عليها جهة واحدة هي إيران لكي تخدم مشروعها في المنطقة.

وليس مصادفة أن تركز الجهود على ثلاثة بلدان رئيسية في المنطقة (العراق وسوريا ومصر). وإذا كانت نتيجة وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر هي الهزيمة، فإن لكل من العراق وسوريا قصة أخرى ما زالت مستمرة.

فقد كانت البداية في العراق لكي يكون قاعدة مشروع “الشرق الأوسط الكبير”. ولم تكن الصدفة هي التي قادت لاحتلال العراق عام 2003 ومن ثم تسلل أفواج تنظيم القاعدة إليه من منافذ معروفة بعد انهيار سياجه الخارجي إثر حل الجيش الوطني العراقي، لكي يتزامن مع القرار الأميركي بجعل العراق المحتل قاعدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير. فتنظيم القاعدة في العراق لم يكن له وجود قبل أبريل2003 رغم كل الجهود الاستخبارية الأميركية مع الجواسيس العراقيين الذين تحولوا فيما بعد إلى زعماء سياسيين في العراق. ولم يكن من المستغرب حصول ذلك التوافق غير المباشر بين ضربات قوات الاحتلال الأميركي للمقاومة العراقية المسلحة، وبين الصدام المسلح بينها وبين تنظيمات القاعدة، وبعدها ضد تشكيلات الصحوات في الأنبار.

لقد تم التلاعب والتشويش على المقاومة الوطنية العراقية عن طريق الخلط المتعمد بينها وبين الإرهاب المتمثل في تنظيم القاعدة. بعد حصرها في الطائفة العربية السنية، مع إن أطرافاً شيعية، مثل “تيار مقتدى الصدر”، أعلنت حربها ضد المحتل الأميركي. وقد أطلقت قيادة الاحتلال شعار “محاربة الإرهاب” وتنظيم القاعدة بشكل ذكي ومبرمج منذ عام 2003 اعتماداً على موروث قمع الثورات المسلحة في أميركا اللاتينية (نيكاراغوا وبيرو وأورغواي وغيرها) حيث لا يستطيع أحد من غير الإرهابيين أو المشجعين على الإرهاب أن يدافع أو يقف إلى جانبه، لكي تتم خلف هذا الشعار تصفية المقاومين للاحتلال بشراكة مع المحتلين والسياسيين الحاكمين في بغداد الذين واصلوا حملات التصفية الجسدية أو التغييب أو الاعتقال للمعارضين، بعد إلصاق تهمة الإرهاب ضدهم وفق قانون (4 إرهاب) الذي تحول إلى أداة كيدية ضد الأبرياء.

هناك معلومات صحفية كثيرة تؤكد أن “تنظيم القاعدة” وفروعه التي توالدت مع مرور الأيام ليس بعيداً عن الرعاية الأميركية، خاصة بعد التطور الدراماتيكي في سوريا إثر تحول انتفاضتها السلمية وجرها لتتحول إلى ثورة مسلحة، بشكل مغاير لما حصل في انتفاضتي تونس ومصر اللتين فاجأتا الإدارة الأميركية وأجهزتها الاستخبارية.

وتم تسريب شعار “الربيع العربي” لكي يتم احتواء تلك الانتفاضات الشعبية. وهناك أخبار تتحدث عن حوارات أميركية متواصلة مع الراعي الأول لهذا التنظيم (طالبان) بعد فتح مكتب لها في الدوحة، وما يقال عن مكاتب مماثلة لطالبان في واشنطن. بل إن الأميركيين لديهم قنوات مع غالبية التنظيمات الإسلامية المتشددة ومن بينها تنظيم القاعدة الذي تعلن الحرب ضده.

لقد وجدت الأنظمة المستبدة ملاذها في شعار “محاربة الإرهاب” لكي تحصل على الدعم الأميركي ورعايته لهم. والمثال الأول في العراق، الذي أعلن حكامه الحاليون إنهم سبقوا بلدان الربيع العربي في حكمهم، ليسحبوا هذه الورقة من أيدي المنتفضين. وضمن مسلسل قمع الآخر، فتح أخيراً رئيس الوزراء المالكي فوهة النار على الأنبار في معركة وضع لها شعار “محاربة داعش” التي أصبحت عنواناً لامعاً يجمع الحالتين العراقية والسورية.

وقضية أهل الأنبار لا تحتاج إلى أدلة وبراهين على عدالة ومشروعية مطالبهم في الاعتصامات التي استمرت لسنة دون تلبية لها، وهي تعكس حالة العراقيين في جميع أنحاء العراق، لكن قضية الأنبار تحولت إلى سوق للمتاجرين السياسيين، ولا يستبعد تسلل عناصر دخيلة لتشويه سمعة هذه الوقفات الاحتجاجية السلمية، بعد فشل جميع محاولات عسكرتها. ولعل أهل الأنبار لا يحتاجون إلى أدلة تؤكد نجاحهم في طرد تنظيم القاعدة عن المنطقة.

كان يمكن للمالكي إنهاء تلك الاعتصامات بإجراءات سياسية فورية. لقد تورطت حكومته في هذا الملف رغم ما تمتلكه من ظهير إعلامي وسياسي وعسكري محلي وأميركي وإيراني هائل، حيث طلب المالكي من واشنطن دعمه في معركته، وتم التجاوب الفوري في الدعم العسكري اللوجستي والسياسي، عبر إرسال مختلف الأسلحة الفتاكة واستعداد البنتاغون لتدريب

مقاتلين من الجيش العراقي بعد أن دربوا عناصر الجيش العراقي الجديد لمدة ثمان سنوات.

إن قضية أبناء الأنبار وصلاح الدين والموصل وديالى وكركوك وجزء كبير من أبناء بغداد، تؤشر على وجود أزمة سياسية كبرى في الحكم. حيث تجاهلت حكومة المالكي ومنذ ثماني سنوات معاناة هذا القسم الكبير من أهل العراق، وتشير الوقائع إلى حلول مقولة “المظلومية السنية” بديلاً “للمظلومية الشيعية” مع إنها “مظلومية الشيعة والسنة” في آن واحد فيظل حكم لم يحقق العدالة والمساواة، ولم يحقق شعارات الأميركان الذين جاؤوا بهذا النظام من أجلها لبناء حكم ديمقراطي تعددي.

ولهذا فقد احترقت ورقة “محاربة الإرهاب” بين العراقيين. فكيف تقصف مدفعية الطائرات بيوت المدنيين من أهل الفلوجة والأنبار تحت شعار مطاردة “داعش” وهم الذين يحاربون “داعش”؟ إن استخدام الأداة العسكرية ضد المواطنين سيؤدي إلى مزيد من الاحتقانات والتوترات في ظل وضع أمني مفكك.

في المثال السوري المرتبط جيوسياسياً ولوجستياً بالوضع العراقي، انكشفت لعبة تنظيم القاعدة “داعش” بصورة أكثر وضوحاً من الحالة العراقية. ففي الوقت الذي جُرّت فيه ثورة الشعب السوري السلمية للخلاص من الاستبداد والدكتاتورية والظلم وغياب العدالة، إلى ساحة غريبة عن الشعب السوري، حيث يصعب فتح صراع طائفي بين العرب السنة الذين يشكلون أكثر من85 بالمئة من الشعب السوري مقابل الأقلية العلوية الحاكمة، فقد دخل تنظيم القاعدة ليكون أداة لعبة قذرة عنوانها الحرب الطائفية، وقيام فصائل “داعش” بقتال “الجيش الحر” الذي يحارب النظام، في محصلة عنوانها الحفاظ على نظام بشار الأسد وقمع معارضيه. الحالة السورية لها بعد قومي مهم اشتغل عليه نظام حافظ أسد لعقود ثم من بعده الوريث الابن، تحت شعار “المقاومة والممانعة” تلبية لرغبات مشروع الهيمنة الإيرانية في المنطقة، تتزامن مع صحوة الدب الجريح في موسكو، ولكي تتكشف الصورة بوضوح على جنبات ثورة الشعب السوري التي تحولت إلى ثورة مسلحة لكي تتهم بالإرهاب، مع إن عراب نظام دمشق وحامي تمويلاته “رامي مخلوف” أعلن قبل أكثر من عام “إن أمن سوريا مرتبط بأمن إسرائيل” باعثاً النظرية التي قادها شارون قبل عام 2006 والتي طالب فيها كلا من واشنطن بوش الأب وباريس شيراك بتخفيف الضغط على نظام بشار، “لأن الشيطان الذي تعرفه أحسن من الشيطان الذي لا تعرفه” وخشية إسرائيل من مجــــيء نظام غير مأمون.

هناك لعبة سياسية ورقتها الرائجة حالياً “تنظيم القاعدة بطبعته الجديدة في كل من سوريا والعراق “داعش” لكنها ورقة محترقة أمام شعبين عريقين اشتركا في محنة الدم والتشرد، بل هو عدوهما الوكيل المعتمد للاستبداد المحلي ولماكنة المخابرات الدولية.