ليست أحداث تركيا في الساعات الأخيرة من يوم ١٥ تموز بالأمر المفاجأ؛ إنما كان متوقعاً وقد كتبنا عن مؤشرات نهاية (العثمانيون الجدد) قبل ثلاثة سنوات. أوردوغان نجح إلى حد كبير في مشروع إحياء الخلافة، وهو متدخل فعلياً، وله جماهيرية جيدة، في بعض مناطق الإمبراطورية العثمانية. هذا النجاح جاء بعد خطوات إستطاع من خلالها تقليص نفوذ العلمانية التركية وإضعافها بعد أن نجح بعملية تغيير الدستور، ثم جاءت مرحلة السلطنة، عندما تحقق حلم أعادة سلطة معنوية في نفوس بعض الشعوب، إذ لعب بالإشتراك مع دول خليجية على وتر طائفي أشعل حريقاً هائلاً في المنطقة، ولولا دور مصر (السنية) في مواجهة مشروع أوردوغان، لشهد العالم أشرس حرب دينية في التاريخ، مركزها عموم العالم الإسلامي.
رغم صعود أوردوغان وحزب العدالة عموماً على سلّم تلك السياسات، بيد أنها جاءت بنتائج عكسية، سيما لدى بقايا العلمانية التركية وعلى رأسها المؤسسة العسكرية. الدور العسكري الموصوف برعاية العلمانية، إنتهى دستورياً على يد أوردوغان المدعوم شعبياً، غير إن الدساتير لا تفرض على الناس طريقة حياة غير مقتنعين بها، سيما إذا كانت نسبة الموافقين والمعارضين متقاربة. فالتغيير التركي الداعم لأوردغان يمثل ٥٨٪ فقط، بينما تجاهلت سياسات السلطة إرادة ٤٢٪ من الشعب التركي، وهذه النسبة الكبيرة لها مشاكل عميقة جداً مع النظام تتعلق بالبنية الأساسية فيما يخص القوى والأحزاب العلمانية والجيش، والمشاكل القومية التي تتعلق بأكراد تركيا. إنّ النسب أعلاه تعد عاملاً مؤرّقاً لأية دولة، وبالتالي ينبغي السعي لمغادرة الأزمة بطريقة الحل لا الهروب. حزب العدالة بقيادة أوردوغان إختار الطريق الأسهل، وهو إسكات صوت الداخل بالقمع وخلق مشاكل مع الخارج. هذه السياسة جعلت أنقرة محاصرة خارجياً بكم هائل من الأعداء، العراق، سوريا، مصر. وتنافس عدائي مع إيران، أزمة كادت أن تتحول إلى حرب مع روسيا. قمع حريات الداخل، وقضية الأرمن التاريخية، دعت مراكز مهمة في الإتحاد الأوربي إلى مهاجمة الحكومة التركية والإستهزاء بها وهذا يعكس مواقف مناهضة لسياسات تركيا في قضايا كثيرة، كملف الهجرة والحدود وداعش، فضلاً عن الحريات.
عوامل ضغط رهيب، تحوّل إلى إنفجار داخلي، وما قبل الإنفجار أدرك الأتراك ضرورة مراجعة سياساتهم وهذا ما حدث قبل أسابيع من الإنقلاب. إعتذار أوردوغان لروسيا لم يكن لولا جدية إتخاذ قرار تغيير سياسته جذرياً بما ينسجم مع معطيات الميدان، مبتعداً عن المغامرات والإنفعالات الحالمة وهو بهذا يبتعد عن محور الخليج الذي يعد عامل أزمة.
القضية الكبرى التي جعلت أوردوغان طرف صراع ضمن محور فشل لغاية الآن، هي القضية السورية، وقد أعلن رئيس وزراءه عن إستعداد بلاده لتغيير موقفه من النظام السوري وإعادة العلاقة!..
بمعنى إن خمس سنوات من المال والدم ذهبت هدراً دون تحقيق أدنى هدف.
في القضية السورية لم تبدأ الخطوات العملية، ولم تتضح صورة ضعف النظام التركي، إلا عندما أعلن الجيش في مساء ١٥ تموز رسمياً تصدع ذلك النظام من خلال الإنقلاب الذي كان ناجحاً بكل المقاييس. إذ إستطاعت حركة الجيش، رغم ضعف التخطيط، من الإستيلاء على جميع المراكز الحيوية الأمر الذي إضطر الرئيس إلى إعلان (النفير الشعبي) عبر أحدى مواقع التواصل الإجتماعي!. لحظة تاريخية تلك التي تحدث بها الرئيس لجمهوره الخاص، وهو يعطي إشارة أو يؤكد الأوامر، بضرورة التحرك. وهنا جائت لحظة الصدام والتي تتمظهر بها قوة أردوغان وحزبه أمام جميع الفعاليات المؤثرة في المشهد التركي. هناك قراءات تشير إلى إنّ الشعب التركي هو الذي أجهض محاولة الإنقلاب، ولكن الحقيقية هي إن جماهير حزب العدالة والتنمية الإسلامي المنظمة جداً، مليشيات، هم من واجه الجيش. إنّ سنوات حكم أخوان تركيا أكدت من حيث النتائج، نهج الأخوان في إدارة الحكومات، إذ إنهم لا يثقون بمؤسسات الدولة. قوة التنظيم والإستجابة العالية لا تعكس عقائدية الإرتباط بالرئيس، بقدر ما تعكس المصلحة التي حققها الرئيس والحزب لإتباعه. إستطاعت منظمة العدالة وعبر مليشياتها إجهاض حركة الجيش، وهذا يعني إن القوة غير النظامية كسرت هيبة الجيش، ولهذا الأمر تداعيات ستحملها الأيام والأشهر. أنقرة ذهب مرة أخرى بأتجاه خاطئ، إذ إنحازت كلياً للخارج على حساب الداخل المضطرب، بينما حاصرت ذلك الداخل بحملة تصفية واسعة شملت أكثر من خمسة آلاف معتقلاً لغاية الآن. وهذا التصرف كفيل بخلق معارضة كبيرة، ويعكس إستمرار ضعف التركيز.
الأيام القادمة ستشهد تطورات مهمة في علاقات تركيا الخارجية وتحولات تؤثر على عموم المنطقة إبجاباً، غير إنّ تركيا ستدفع الثمن على كافة المستويات. فقيام مليشيا بضرب أحد أهم أعمدة الدولة، لن يمر بسهولة، وإذا مر فهذا يعني إنّ الأتراك تنازلوا عن الجيش الذي يعد العامل الرئيسي في دور وقوة ومكانة تركيا عموماً. لقد إستخدمت السلطة الشرعية وسيلة غير شرعية لقمع مؤسسة شرعية إثر عمل غير شرعي.. تبدو المعادلة متوازنة إلى حدٍ ما؛ بيد أنّ الخرق المتمثل بالإعتقالات العشوائية هو غلو في بسط السلطة وبدا وكأنها فرصة ترغب الحكومة بإستثمارها.
أكثر من عشر سنوات والعدالة يعيش صعوداً غير مسبوقاً، وها هو مفترق تاريخي، فالوضع التركي الآن تغطيه أكداس الرماد التي تخفي تحتها جمراً ربما ستشعلها رياح الأتاتوركية أو تطفأها الإستفادة من دورس المواقف السابقة. وما زال مصير الأتراك متقلباً بين العلمانية العسكرية أو الديمقراطية الإسلامية، وهذا ما يفسر صمت المعارضة في ساعات الإنقلاب الأولى. خروج جماهير حزب العدالة وأنصار أوردوغان، أو بالأحرى مليشياته يكشف عن إستعداد مسبق ويبدو إنّ أوردوغان لديه تسريبات حول العملية، لكنه بالطبع لا يعرف أكثر من وجود خطر. ولو كانت لديه تفاصيل أكثر لأحبط العملية قبل وقوعها وجَنّبْ تركيا خسائر فادحة ونتائج مجهولة.
أبرز النتائج، صدام بين المليشيات والجيش، وإنقسام بين الجيش ذاته. في ظل هذه النتائج، ستعلو أصوات المعارضة الهابطة والتي سيزداد هبوطها في ظل حملة الإعتقالات الواسعة. مجموعة عقد مستعصية صنعها الحزب الحاكم بنفسه، وها هو يسعى حثيثاً لتفكيكها.
أوردوغان ترك أغلب الملفات الخارجية مفتوحة ليواجه الداخل، وسيغلقها قريبا دون قيد أو شرط، كما فعل مع روسيا بالضبط. ولعله إختار المحور المتصدر في الميدان، وهذا يعني قطيعة مع الخليج وحتى أمريكا التي بدأت ترسل إشارات تحذيرية، غير أن الموقف الروسي والأيراني تجاه الحكومة التركية ينبأ بتطورات كبيرة على مستوى التحالفات، ربما تجعل أوردوغان يدير ظهره لأصدقاء الأمس!..